18 ديسمبر، 2024 5:00 م

العمارة اليمنية.. أبناء الأرض يرثون ملامحها

العمارة اليمنية.. أبناء الأرض يرثون ملامحها

يصعب اختصار تفاصيل العمارة اليمنية في كلماتٍ أو أوصاف، كونها تترك انطباعاً خاصاً لدى من يتعرف عليها أو يتجول بين نماذجها الفريدة، إذ يستطيع استنباط معانيها واستشعار فلسفتها وخصوصيتها من خلال تفاصيلها التي تجسد روح الثقافة المحلية وأبعادها، وبشكلٍ عام امتازت العمارة اليمنية بوحدة الفكرة التصميمية الأساسية وهي وجود نواة التصميم، بحيث تتبع كل منطقة طبيعة المواد المتوفرة لديها وجغرافيتها التي تفرض طريقة بناءٍ معينة أو ارتفاعاً محدداً أو إطلالةً على الداخل أو الخارج، مما يعكس حرفية وإتقان استخدام مواد البناء وتطويعها حسب الحاجة، وهو ما يمتد أثره ليشمل الزخارف والنقوش البديعة التي تزين المباني التي تتأثر أيضاً بطبيعة المجتمع وتاريخه وذوقه وطريقة تفكيره، حيث تبدو اللمسة الدينية واضحة لكثرة المعابد في الممالك اليمنية القديمة، مع وجود اختلافات في عناصر العمارة من معبد إلى آخر ومن مملكة إلى أخرى وتأثرها بالعادات..

فكان من ضمن الأعراف الشهيرة في اليمن نقش اسم البناء أو مالكه مع ذكر اسم الإله تيمنًا به في شاهد يوضع أمام البيت أو المعبد ومن هذه الكتابات أخذ الباحثون أكثر معلوماتهم عن تاريخ اليمن القديم، حيث تعود تصاميم بعض المنازل والمعابد إلى ما يقارب ٣٠٠٠ عام في عصر مملكةِ حِمْيَر وتحديداً في مدينةُ (ثُلَا) في محافظةِ عمرانَ شمالَ غربِ صنعاء..

ومن مميزات المعمار اليمني هو حفاظه تقريباً على هويته حيث لم يتغير كثيراً عما هو عليه اليوم في صنعاء القديمة رغم أن الكثير من المباني التاريخية هدمت وأخذت حجارتها لبناء بيوت جديدة عبر عصور مختلفة من تاريخ اليمن الذي مرت عمارته بمراحل عديدة منها القديم كما ذكرنا، ومنها الحديث الذي قد يصل إلى ٣٠٠ عام، حيث تَضُمُّ المدينةُ سلسلةً مُترابِطَةً مُتلاصِقَةً مِنَ المنازِلِ والمعالِمِ القديمةِ تُقَدَّرُ بـحوالي ١٤,٠٠٠ منزلٍ أثريٍّ قديمٍ على مساحةٍ تُقَدَّرُ بقرابة ٣٧٠٠ متر، حتَّى إنَّ المُؤَرِّخينَ والجُغرافيينَ أطلَقوا على مدينةِ صنعاءَ القديمةِ وَصْفَ (المتحف المفتوح) وأسْمَوْها عـروسَ الجزيرةِ العربيةِ والجوهرةَ اليمنيةَ في بلادِ العربِ، ويستفيد سكان المدينة من هذا النمط العمراني في مواجهة الحرارة الشديدة صيفاً حيث يقلل تلاصق المباني من تعرض الأسطح الخارجية للمنازل لأشعة الشمس المحرقة نتيجة تظليلها لبعضها ولما يجاورها من مبانٍ وأسواق، كما يستفيد المشاة في طرق المدينة وأزقتها الضيقة من عدم استقامة الشوارع في تحاشي أشعة الشمس في فترة الظهيرة..

ومن العوامل التي تضافرت وساعدت أيضاً على تحديد تاريخ الكثير من البيوت في اليمن وتوثيقها وجود عناصر إضافية ذات تاريخٍ معروف كوجود كتابات بخط المسند الحميري الذي يعود تاريخه إلى مملكة حمير منذ قرابة ٣٠٠٠ عام، وقد كانت هذه الكتابات جزءاً من الزخارف والنقوش المستخدمة في تزيين المباني وتعد أيضاً نوعاً أصيلاً من أنواع الخط العربي وتفرعاته وكانت توجد على الجدران العليا للبيوت، عدا عن وجود الكثير من المخطوطات التي تؤرخ لتلك الحقبة وخصائصها ومبانيها والعديد من جوانب الحياة آنذاك..

كما امتازت العمارة اليمنية بعددٍ من المعالم الفريدة التي تجمع بين جمالية الشكل وأهمية الدور الذي تقوم به ليخدم أهل البيت ومنها :

١- العقود: وهي عنصر معماري مقوس مهمته هي حمل الأسقف وتوزيع الأروقة والتخفيف من الحمل والضغط على الجدران ويعتمد في نقطتي ارتكازه على الأعمدة الحجرية ويحتوي على العديد من الأنواع والأنماط..

٢- القمرية: وقد ابتكرها ملوك سبأ اليمنيون قبل ٤٠٠٠ عام وهي أحد العوامل المشتركة في المعمار بين العديد من الدول العربية وكانت موجودة ضمن التراث المعماري لمنطقة بلاد الشام والبيوت البيروتية التراثية في لبنان، ويأتي شكلها على هَـيْئَةِ قُرْصٍ دائِرِيٍّ أو نِصْفِ دائريٍّ شَفّافٍ مُتَعَـدِّدِ الألوانِ يُصْنَعُ مِنَ طبقةٍ رقيقة جدًّا من (المَرْمَر) يتم صقلها حتى تصبح شفافة ويتم تثبيتها في أعلى النافذة، ولا يَكادُ يَخلو منها مبنًى في اليمنِ كافة سواءٌ في المدنِ أو القُرَى، والوظيفةُ الأساسيَّةُ للقمريةِ هو إدخالُ الضَّوْء الطبيعي إلى داخِلِ الغُرَفِ وإضفاءُ مسحةٍ جماليةٍ على المبنَى مِنَ الداخِلِ والخارِجِ..

٣- الشاقوص: ويُمْكِنُ أنْ يُطْلَقَ عليهِ اسمَ المكيف الطبيعي، لأنَّهُ يَقومُ بهذا الدَّوْرِ على أكملِ وَجْه عند فتحه في فصل الصيف حيث يقوم بتجديدُ هواءِ الغرفة والسماح بمرورِ تيارٍ نسيميٍّ فيها، أما في الشتاء فيتم إغلاقها ببابٍ زُجاجِيٍّ، وهو عبارةٌ عن فتحةٍ طويلةٍ في جُدرانِ الغرفةِ مصنوعةٍ مِنَ الجِبْسِ المُخَرَّم..

٤- المشربيات: وتُصْنَعُ عادةً مِنَ الخشبِ أوِ الياجورِ أوِ الحَجَرِ بأشكالٍ زخرفيةٍ جميلة ومتعدِّدَةِ الألوان، تُثَـبَّتُ على النوافِذِ الخارجيةِ للمبنَى فتُضْفي عليهِ مسحةً جمالية مُمَيَّزَة تَحجبُ الرُّؤْيَةَ عنِ المارَّةِ في الخارجِ وتُيَسِّرُها لِمَن في الداخل، كما تُستخدَمُ في النِّداءِ وتُسْهِمُ في إضاءةِ الغُرَفِ وتَهْوِيَتِها، عدا عن استخدَامها كمكانٍ لِوَضْعِ المَدَل (القُلَل) لتبريدِ الماءِ وحِفْظِ المأكولات، وكَوْن المَدَل المصنوعُ مِنَ الفخارِ يوضَعُ عادةً في الاتجاهِ الشماليِّ (القِـبْلِيِّ بالنسبةِ لليمن) مِنَ المبنَى أو المنزل المُتَمَيِّز بالبرودةِ فإنَّ المياهَ الموضوعةَ في تلكَ الأواني تبردُ بشكلٍ سريع..

٥- الكَنَّة (كاسِراتُ الشمسِ): وهي عبارة عن كاسِرَة أُفُقِيَّة ملونة مُزَيَّنَة بأفاريزَ مخرمة بشكلٍ زُخْرُفِي، تُصْنَعُ مِنَ الخشب ووظيفتُها كَسْر أشعة الشمس والحماية مِن المَطَر، وتَبرُز بامتدادٍ أُفُقِي أعلَى النوافذِ، وتوضعُ الكَنَّةُ بين النافذةِ والقمريةِ..

ومن أمثلة العمارة اليمنية الشهيرة..
قصر دار الحجر الشهير، بابُ اليمنِ صَنْعاءَ، منازِلُ صَنْعاءَ الأثريةُ، سد مأرب القديم، معبد بران (عرش بلقيس)، معبد أوام (محرم بلقيس)، معبد رأس مدر (معبد الإله عثتر)، معبد وعول (صرواح)..
وهو ما يضع اليمن في مكانةٍ خاصة جداً بين الأمم على مر التاريخ، ويجعلها دوماً مرتبطةً في الأذهان بالعز والشموخ وإكرام الضيف والتلاحم، ويكرسها كمصدرٍ للحضارة والفكر والقيم والحكمة التي اشتهرت بها، ويجعل ملامح أهلها تتجسد في معمارها كأجمل صورةٍ لذلك الإنصهار بين الأرض وأبنائها..