العمامة لها موضعها وموقعها ودورها , والكرسي له مقامه ومَن يجلس عليه ويتدبر الأمور بواسطته , وبين العمامة والكرسي مسافة لا يمكن إلغاؤها والتجرؤ على وضع العمامة في الكرسي!!
فالمسيرة البشرية بسلوكياتها المتكررة تشير إلى عدم توافق العمامة مع الكرسي , وأنها في فترات معينة جلست على الكرسي فأذاقت الأجيال مرارات قاسية وويلات عاتية , والشواهد لا تحصى ولا تُعد , ويمكن قراءتها في أوربا وآسيا ودول الشرق الأوسط .
قد يقول قائل أن في هذا الطرح نوع من الشطط أو الخطأ , لكن القراءة السلوكية للواقع البشري تؤكد أن الدين لا يمكنه أن يكون منهج سياسة , والذين يمثلون الدين لا يصلحون للسياسة مهما توهموا , إلا إذا تقنعوا بالدين أو تظاهروا به , وفي جوهرهم نوازع وتطلعات سياسية , مأسورة بأمّارة السوء التي فيهم.
ففي أوربا تحقق العناء الكبير وذاقت الأجيال فظائع الويلات والظلم والقسوة والإجحاف من سلطة الدين وهيمنته على السياسة , حتى إنتهى الأمر بعزله ومحاصرته في رقعة جغرافية صغيرة في روما.
وقد حصل الذي حصل في الواقع العربي , حيث إنطلقت الأحداث والتداعيات حالما جرت المحاولات لإقحام الدين بالسياسة , ووضع العمامة على الكرسي , ولم يكن هذا السلوك صالحا وناجحا بالمعنى الحقيقي للنجاح , وإنما تسبب فيما تسبب به من مواجهات وصراعات مريرة لا تزال تؤثر في نفس الأمة وسلوك الأجيال.
ويغفل الباحثون هذا الأثر , ويتصورون أن الدين يصلح للسياسة , وأن العمامة يمكنها أن تكوّن قيادة سياسية ذات قيمة معاصرة ودور حضاري , بينما هي تتخبط حالما تمسك بالسلطة , ومنذ أول عهدها بذلك تسببت بالصراعات الخسرانية الأليمة , وفي القرن العشرين لطّخَت المسيرة الإنسانية بالمخازي والخطايا والآثام , وتفاقمت في أفغانستان وإيران , ووصلت ذروتها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , بما جلبته من الجرائم البشعة بحق الوجود الإنساني.
وقد يحاجج البعص بأن العمامة في إيران لا تزال قادرة على القبض على زمام الأمور , لكن الحقيقة السلوكية والقانون النفسي الراسخ يشير إلى أنها لا يمكنها أن تدوم أطول مما مضى , وأنها في حالة إنحدار وإنهيار عاجلا أم آجلا , لأن الواقع المعاصر لا يمكنه القبول بمفهوم العمامة والكرسي , وأن الحياة بوسائلها الإتصالية تتنافى مع وجود أي عمامة في الكرسي , لأن نهر الحياة يجري ولا يمكنه أن يتركّد في أحواض عمامة ومستنقعات لحية.
ولأن العمائم ذات مفاهيم عقائدية جامدة عمياء , فأنها تتعفن وتدوسها سنابك الزمن وتلقيها على قارعة الوعيد , وقد يتكلف ذلك المزيد من الخسائر الفادحات والويلات المرعبات , لكنها لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتواصل وتبقى في الحكم مهما توهم المتوهمون , ومهما أمعنت بخداعهم أحلامهم الوردية المعطرة بالفنتازيا المطلقة.
وعليه فأن من الواجب أن تستيقظ العمائم واللحى وتدرك أن الزمان ليس زمانها , وأنها كالديناصورات التي لا يمكنها أن تعيش زماننا , ومن واجبها أن تتنحى بكرامة عن الكراسي وتحرر نهر الحياة من قبضتها , وتستكين في أماكنها المناسبة لها , ولا تتوهم بأنها قائدة الحياة , وإنما هي أحد اركانها الأخلاقية والتهذيبية لا غير , ولا بد من معرفة القيمة والقدر والدور , بدلا من التمدد الوهمي البائس العقيم.
فالعمائم بوابات مآثم , ووسائل تغريرٍ وتسويغٍ لمزيد من الجرائم!!
فابعدوها عن الكراسي , ينجيكم الله من المآسي!!