العلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول، والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ *} [محمد: 19] وقد بوَّب الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ لهذه الآية بقوله: (باب: العلم قبل القول والعمل).
وذلك: أنَّ الله أمر نبيَّه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}، ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فدلّ ذلك على أنَّ مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأنَّ العلم شرط في صحة القول، والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدَّم عليهما؛ لأنه مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يكون علم من غير الرسول، ولكن في أمور دنيوية، مثل الطبِّ، والحساب، والفلاحة، والتجارة.(ابن تيمية، 1995، ج13، ص136) ولاشك: أنه لا ينهي عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس، وشرطه.(ابن القيم، 1989، ج2، ص464)
وقد قسم الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ العلم النافع ـ الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها ـ إلى ثلاثة أقسام، فقال ـ رحمه الله ـ: (والعلم الممدوح الذي دلَّ عليه الكتاب، والسنة هو العلم الذي ورَّثه الأنبياء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا درهماً، ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر»).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، واية الكرسي، ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر الله به ممَّا كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب، والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان، وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال، والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد من كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال، فإن ذلك جزء من جزء من علم الدين.
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنَّهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب، والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فَرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، ولا من الإيمان ما يتميَّز به على من أوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم. قال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب، وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح، وطعمها مرٌّ».
فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن، وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه، وسوره خير منه؛ وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أوتي العلم، والإيمان؛ فهو مؤمن حكيم عليم، وهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مع اشتراكهما في الإيمان. فهذا أصل يجب معرفته.
والعلم النافع هو أعظم أركان الحكمة التي من أوتيها؛ فقد أوتي خيراً كثيراً، وهو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل؛ فهو حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمة بهم، وفضلاً منه، وإحساناً فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ *}[الصف: 2 ـ 3].
وحذَّرهم من كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة، والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله عز وجل: . قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ً ïإِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ *}[البقرة: 159].
وهذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموه من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته؛ فإن حكمها عامٌّ لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله من البينات الدالَّة على الحق، المظهرة له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيَّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك، وجمع بين المفسدتين ـ كَتْمُ ما أنزل الله، والغش لعباد الله ـ لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد دينهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزوا من جنس عملهم، كما أنَّ معلم الناس الخير يستغفر له كلُّ شيء؛ حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح دينهم؛ ولأنه قرَّبهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله.(السعيدي، 1977، ج1، ص 186)
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم: أنَّ «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه؛ ألجِم يوم القيامة بلجام من نار». فتبين بذلك، وغيره: أنَّ العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به، ولهذا قال سفيان (الذهبي، 1983، ج8، ص454) في العمل بالعلم، والحرص عليه: (أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله). وقال ـ رحمه الله ـ: (يراد للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر).
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، مكتبة الصحابة،1422ه-2001م صص136-138
الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى، 1403هـ.-1983م
ابن القيم، تهذيب مدارج السالكين هذبه عبد المنعم صالح العلي العزي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1409 هـ/ 1989م.
ناصر السَّعدي، تفسير السَّعدي المسمَّى تيسير الكريم الرَّحمن في تفسير كلام المنَّان لعبد الرَّحمن المؤسَّسة السَّعدية بالرِّياض، 1397ه-1977 م.
ابن تيمية، مجموع فتاوى جمعه عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، السعودية. 1416هـ/1995م