(بعبع العلمانية ) ذلك الشيطان الكافر , المتمرد على الله , على الاقل هذا ما ينعته به الكثير من مناوئيه الاسلاميون . و ( العلمانية ) ايضا هي ذلك الفكر المتحضر , الثائر على الموروث الديني المتخلف , الذي جائنا من عصور ما قبل الصناعة , وهذا الوصف هو خلاصة لرأي بعض انصار العلمانية العرب المتحمسين .
لا شك ان كلا الوصفين السابقين ساذجين , وظالميَن , وهما وصفان متوقعان من ماكنة الخدر والخمر العربية . لكن ليس ذلك ما يهمني من الموضوع , بل اريد ان اتناول ( العلمانية ) اليوم كسلاح في لعبة الامم على الارض العربية .
العلمانية نتجت في اوربا كعلاج لمشكلة عانت منها اوربا كثيرا , تلخصت في سيطرة الكنيسة – بكل تخلفها وتزمتها ودنيويتها – على مقدرات وقرارات ومصير الشعوب الاوربية . ولانها كانت متمسكة – وبصورة متعمدة ربما – بالموروث العلمي والاجتماعي والفكري السيء فانها تسببت بخسارة الاوربيين للكثير من السنين والجهود والاموال والارواح , وجعلتهم يعيشون قرونا من التخلف والانحطاط والجوع . حتى تبلورت – مع الزمن – مجموعة من ردات الفعل – المدروسة والعفوية والمؤامراتية – لتطرح الفكر الاوربي الجديد , والذي قرر فصل الكنيسة عن الحياة العامة , وحصرها بالجانب العبادي , فانتج مجموعة من النظم التي حددت اطر العلاقة بين الكنيسة والدولة . ولان المفكرين الاوربيين كانوا يعون حاجة الانسان للبعد الروحي فانهم لم يلغوا الكنيسة كما فعل غيرهم , بل ابقوا على وجودها الروحي , كمساهم في معادلة التوازن التربوي , التي يحتاجها المجتمع الاوربي .
وحينما تواصل بعض العرب بالمجتمع الاوربي الحديث وانبهروا بما لديه , حاولوا استنساخ جميع التجربة الاوربية دون وعي ودراسة , وكان في مقدمة ذلك فصل المؤسسة الدينية الاسلامية عن الدولة . وهذا فرحت له المؤسسة العسكرية العربية الدنيوية غالبا , فنتج التحالف العلماني العربي , الذي اندمج بعالم المنظمات السرية – الاوربي المنشأ والهدف – لاحقا .
ولان التقدم العلمي والصناعي الاوربي احتكاري وماص للثروات – سيما في الحقبة الاستعمارية – فقد حصل العلمانيون العرب على ( الفكر العلماني ) , ولم يحظوا بما ارادوا من التقدم التقني الذي احرزته العلمانية في اوربا . وهي قسمة ضيزى , لا يخرج بامثالها الا اجهزة الاستنساخ الموجودة بدلا من العقل في رؤوس بعض العرب .
العلمانية اذا اريد منها حسن التنظيم والتوزيع الامثل للكفاءات وادارة المشاريع والمؤسسات من قبل ذوي التخصص , بمعنى انها مشتقة من كلمة العلم , وتهدف الى رقي المجتمعات ,فهي امر مرحب به كثيرا . لكنها اذا كانت بقصد زعزعة عقائد الناس , عبر تصوير معاداة الدين الاسلامي للعلم , او تسببه بالتخلف , فهي امر مرفوض ومغلوط كليا .
فلم يشهد العالم الاسلامي ظروف مشابهة للظروف التي شهدتها اوربا , ولم تكن المؤسسة الدينية الاسلامية يوما شبيهة بالكنيسة . وحين كان المجتمع الاوربي يريد التقدم , وكانت الكنيسة تحاول ايقافه , كانت البلاد الاسلامية على العكس تماما , ففي العراق كانت الحوزة العلمية تشهد وجود ابرز واعظم النوابغ من رجالات الفكر والهندسة والطب , وفي مصر كانت المؤسسة الدينية هي من تبنت ربط المجتمع المصري بعجلة التقدم العالمية , وحاولت التواصل مع العالم الخارجي , في حين كان المجتمع العربي عموما منشغلا بالصراعات الداخلية والخارجية .
كذلك كانت الحوزة العلمية – وهي المؤسسة الدينية العراقية – السبب الاساسي في ايجاد الدولة العراقية الحديثة , والعامل الاول في تثبيت حقوق المواطنة , واستنقاذ حقوق الجماهير , التي كادت تضيع بسبب اخطاء ورؤى – وربما عمالة – الجيل الاول من العلمانيين العرب . وكذلك انشئت المؤسسة الدينية العراقية مجموعة ضخمة من المؤسسات التعليمية والاكاديمية الاهلية , والتي تدرج فيها الكثير من رجالات العلم والمعرفة والصناعة والفكر العراقيين والعرب , حتى تمت ابادتها على ايدي منتحلي الفكر العلماني في العراق .
اما في مصر فكانت المؤسسة الدينية العامل الحاسم في مواجهة الاستعمار الماص للثروات , والدافعة الرئيسية في انشاء المعاهد العلمية الحديثة في مصر . الا انها فشلت في مواجهة خداع المد العلماني العسكري المشترك , وتركت الساحة لهم لفترة طويلة .
وفي لبنان استطاعت المؤسسة الدينية ان تحافظ على هوية البلاد , التي اصبحت شبه مفقودة بسبب التغرب , فيما نجحت لاحقا في اعادة الاطراف المتناحرة الى طاولة الحوار , لتعيد بناء الدولة اللبنانية الحديثة . ثم كانت الجدار الصلب امام اطماع وسعار الجيش الصهيوني الدموي , وفي نفس الوقت الذي تنشر فيه العلم نراها تقاتل , وبعد القتال تبني .
وفي فلسطين كانت المؤسسات الاسلامية هي الانشط في محاولة توفير فرص التعليم الجامعي لابناء الشعب الفلسطيني المظلوم , الى جانب نشاطها في الدفاع عن الارض الفلسطينية .
والخلاصة ان المؤسسة الاسلامية لا تشابه الكنيسة من قريب او بعيد , وبالتالي محاولة علمنة المجتمع العربي بنحو مضادة الدين تعني ان القائمين عليها اما اصحاب مشاريع تغريبية لالغاء الهوية او انهم يعانون جهلا مركبا .
وهذا لا يعني ان المتأثرين بالفكر العلماني هم سيئون دائما واصحاب مشاريع تخريبية كافرة , بل الواقع يشهد ان الكثير منهم ساهموا في التقدم العلمي والتقني للمجتمعات العربية , سيما في توفير المناهج العلمية للجامعات . وكانت لهم ابحاث ومشاريع علمية كبيرة , رفدت المؤسسة الانتاجية العربية بمادة ضخمة من النظريات والتجارب والتطبيقات .
لكن الاندفاع والحماس لبعض العلمانيين تجاه مضادة الدين الاسلامي واعتباره عدوا , دفع الكثير من الشباب العاطفي للانتماء للجهة المفرطة في الاتجاه المعاكس , وهي التيارات السلفية المتزمتة اللاعقلانية . وذلك كردة فعل تجاه التيارات العلمانية اللادينية , والتي تريد نقل تجارب الحضارات والشعوب الاخرى للمكان والزمان الخاطئين , وهذا واضح من السرد اعلاه .
كما ان وجود المجاميع الاسلامية المتزمتة او السلفية الجامدة , او الجماعات الارهابية , والتي تريد اسلاما ينتشر بالسيف , كل ذلك وفر غطاءا كبيرا لانصاف المتعلمين من الشباب المسلم انتسابا والتائه واقعا ليرتمي في احضان الجماعات اللادينية , والتي تبدي مظهرا خارجيا براقا , يدعي العلمية , وتبطن جوفا فارغا .
ويقوم على المعادلتين السلبيتين اعلاه الحاجات الغرائزية والشهوية الدنيوية , وضرورة سد الجوع المادي والنفسي والجنسي والاجتماعي , اللواتي تتبنى تحقيقهم المناهج العلمانية ( اللادينية ) والجماعات والمشاريع الدينية ( اللاعلمية ) النقديتان .
كل ما سردناه اعلاه يفتح الباب للاعتقاد بان الغرب اذا اراد تمرير مشاريعه الماصة للثروات والمخدرة للشعوب والماحقة للهوية فانه سوف يختار التعامل مع الجهات العلمانية في العالم العربي , لكن الحقيقة غير ذلك تماما ! .
الغرب اليوم يتبنى مشاريعا عملاقة , تغير الجوهر وليس الشكل , تحصد شعوبا وتمحق امما , فاختار للعبته السلاح المناسب للمكان والزمان .
المكان : البلاد العربية . الزمان : عصر النهضة الدينية .
والخيار : التيارات والجماعات الاسلاموية الشهوية والنفعية البراغماتية .
جهة الاسناد : الجماعات والتيارات الاسلاموية البدوية الخاوية السلفية المتجمدة على فهم السلف وتدمير الخلف .
العدو : الدكتاتورية .
البعبع وجهة الخطر: العلمانية .
العلمانيون يوفرون اليوم غطاءا مناسبا جدا لتمرير المشاريع الغربية التخريبية , لانهم صاروا يُستخدمون لتخويف الشعوب بهم وبافكارهم , حيث يتم تصويرهم على انهم كفار عملاء , رغم ان الكثير الكثير من الاسلامويين هم العملاء فعلا .
تم استخدام هذه اللغة المخادعة في العراق , ويتم استخدامها اليوم في مصر , وفي ليبيا , وهكذا . وما يسهل هذه الخدعة هو وجود نوع من العلمانيين اللادينين الذين يعتقدون انهم يعيشون ايام الحقبة الشيوعية .
العلمانيون لو حاولوا فهم المشاريع التي تقوم عليها المؤسسات الدينية الاسلامية العقلانية لوجدوا انهم ربما يلتقون معها في الكثير من الرؤى , وانا اقصد هنا العلمانيين ( العلميين ) لا ( العولميين ) .
واجزم ان احد العلمانيين لو تبنى مشروعا بنائيا انتاجيا او صناعيا او توعويا سيجد المؤسسة الدينية داعمة لمشروعه قبل كل المؤسسات الاخرى . على شرط ان يكون المشروع منتجا نافعا , وان تكون المؤسسة الدينية عقلانية واعية , لا تلك التي تلبس قميص الدين لتتاجر به وتخدع الناس . واقصد بالدعم هنا ( المعنوي ) لا ( المادي ) , لان المؤسسة الدينية ليست مؤسسة مالية او حكومية غالبا .
وانا هنا لا اتحدث عن المؤسسات الدينية جميعا , فبعض تلك المؤسسات – وفي كل المذاهب وعلى اعلى المستويات – لا تتعدى اصنام قريش التي هدمها النبي . وبعض المؤسسات الدينية لا تعرف اين تقع محافظات كاملة من البلاد التي تعيش فيها , وهناك مؤسسات دينية مشغولة بلعق ارجل الحكام والملوك عن متابعة التطور والتقدم العلمي , كما ان هناك مؤسسات دينية تعيش في غيبوبة ذات فرق في توقيت الزمن بنحو قرنين من الزمان .
وعليه تحمل العلمانيون العرب وزر الكثير من مشاريع التخريب الفكري والحضاري التي تقودها وتقوم عليها مؤسسات وجماعات اسلاموية , لانها منحتها الفرصة للبقاء والاستمرار .
كما اننا صرنا نخسر جهود الطرفين : المؤسسة الاسلامية العقلانية الواعية , والتي لها دور مهم في اعادة تنظيم المجتمع العربي وتطوير الفكر , وانتاج العقلية النشطة . والمؤسسة العلمية للمنظمات العلمانية , والتي تحمل في جعبتها الكثير من المشاريع العلمية النافعة للوزاقع العملي العربي .
فيما يستفيد المشروع السياسي الغربي التخريبي , ويلعق فتات نجاحه الاسلامويون العرب , على خلاف الاسلاميين المخلصين , او العلمانيين العاملين .
[email protected]