18 ديسمبر، 2024 5:39 م

العلاّمة الدكتور يوسف عزالدين..قامة عراقية ثقافية

العلاّمة الدكتور يوسف عزالدين..قامة عراقية ثقافية

من زملاء مهنة الطب الأعزاء عندي هو الدكتور الجرّاح الماهر أسل عزالدين السامرائي والذي كنت قد تعرّفت عليه قبل ما يقرب من عشرين عاما في مقاطعة ويلز البريطانية… وكنتُ قد أهديتُ الدكتور أسل أحدى مجموعاتي القصصية وهو المعني بالأدب والشعر والأبن البار لأديب العراق المعروف وعلاّمته الدكتور يوسف عز الدين… واذا بالزميل أسل يقول لي يوما أن والده قد أدخل أحدى مستشفيات مدينة سوانزي في جنوب ويلز، بعد أن أصيب بمرض وهو بعمر التسعين عاما… فراح أسل يقرأ على والده بعضا من قصصي القصيرة جدا، وهنا رد الوالد العلاّمة يوسف عزالدين هل قلت أن الكاتب طبيب؟ فرد أسل بالأيجاب ..فقال الوالد أرسل له تحياتي وأهده نيابة عني مجموعة من كتبي…وما أسعدني تلكم اللحظات من الزمن وأنا أسمع من زميلي العزيز ما قاله علاّمة العراق الأديب والشاعر وأستاذ اللغة والأدب بحق ما كتبت، حتى أهداني مجموعة فاخرة من كتبه التي تفتخر مكتبات الثقافة العربية بها…
وبعد وفاة الأستاذ يوسف عزالدين رحمه الله أقامت الجمعية العربية للثقافة في ويلز حفلا تأبينيا له، وذلك في شهر نيسان من عام 2013، كما ألقيتُ محاضرة عن واحد من أهم كتبه والمعنون ب “في الشعر السياسي الحديث في العراق” وذلك في رحاب مركز الحوار الأنساني في لندن…وقد كان أبنه الزميل أسل معي ليقرأ كلمة العائلة نيابة عن الأبناء والأحفاد…
لقد تعلمتُ الكثير مما قرأت للدكتور الأستاذ يوسف عزالدين، ومن خلال محاضرتي عنه في لندن كنتُ قد فصلّتُ في المنجز الثقافي والفكري لفقيد الثقافة والأدب والفكر، كما أوضحتُ النهج البحثي الأدبي الذي أتبعّه الدكتور يوسف عزالدين من خلال مؤلفاته ودراساته وبحوثه ومحاضراته، وهو الذي ألّف العشرات من الكتب، ونشر العديد من البحوث في الأدب والثقافة، أضافة الى فعله الأبداعي قصيدا أو سردا. وقد حدّدتُ صفات للفقيد وجدتها مما أتصّفت بها شخصيته، وهو صاحب المكانة المعروفة في الوسط الأدبي والثقافي العربي:
1. فقد كان الدكتور يوسف عزالدين صاحب نهج ومدرسة في البحث الأدبي تقوم على المعلومة وتحليلها، وأستكناه معانيها والتأكد منها، ومن مصادرها. وهو يذهب في ذلك كلّ مذهب، بحثا عن مصادر معلوماته. وهكذا تجد كتبه بالذات وقد أحتوت خير المصادر توثيقا لشؤون الشعر العراقي القديم والحديث، أضافة الى شؤون القصة القصيرة في العراق، وشؤون الفكر والتراث. ولعل قائمة كتبه المنشورة من خلال دور النشر العراقية والعربية تدل على مدى الأهتمام الأدبي والثقافي، أضافة الى غزارة الأنتاج وتنوع المواهب. فمن كتبه كأمثلة تقرأ: الشعر العراقي في القرن التاسع عشر: خصائصه وأهدافه، الشعر العراقي الحديث والتيارات السياسية والأجتماعية، في الأدب العربي الحديث (بحوث ومقالات نقدية)، الأشتراكية والقومية وأثرهما في الأدب العربي الحديث، شعراء العراق في القرن العشرين، الرواية في العراق: تطورها وأثر الفكر فيها، تطور الفكر الحديث في العراق، الشعر السياسي الحديث في العراق، الحركة الفكرية في العراق، قضايا من الفكر العربي وغير ذلك.
2. لقد عني المرحوم يوسف عزالدين بأتباع المنهج النفسي في تحليل النتاج الأدبي. وهو في ذلك كان صاحب قول ورأي يقول به ويسنده بالشواهد والأدلّة، من سرد أو قصيد مما جاء على لسان أصحابه ومن مصادر موثوقة. ففي كتابه الشعر السياسي الحديث في العراق يستخلص عزالدين أن الهدوء ليس من طبع أهل العراق..أنما الحدّة والثورة والقوة أبرز مظاهر طباعهم وعاداتهم. يقول عبد الحسين الأزري:
هذا العراق وكان في
زمن من الأزمان بحرا
سنن الوراثة كوّنت
في طبعه مدأ وجزرا
متقلّب كرياحه
ما بين آونة وأخرى
متحّول كالرمل لا
تدع الرياح له مقرا
كالشوك يسرع في اللهيب
فأن خبا لم يبق جمرا
3. وقد كان المرحوم يوسف عزالدين عائليا، بمعنى أنه رجل عائلة، يهتم بشؤون الأسرة والأولاد، ويحرص على غرز روح الأجتهاد والمتابعة عندهم. أضافة الى كونه من المربين المتميزين من خلال دوره التربوي أستاذا في التعليم الجامعي الأولي والدراسات العليا، وفي العديد من الجامعات العراقية والعربية وفي المجمع العلمي العراقي. وفي هذا كلّه كان الرجل الفقيد أجتماعيا صاحب معشر ومجلس، فلم تخلو مجالس الأدب والثقافة من أشعاره ومحاضراته وتعليقاته المهمة.
وقد تميّزت أمسية الجمعية العربية للثقافة في ويلز عام 2013 بأن حضرها نيابة عن عائلة المرحوم يوسف عزالدين ولده البكر زميلنا أسل الطبيب الجرّاح، والذي أبى نيابة عن العائلة الاّ ان يشارك الجمعية وأعضاءها ومتابعيها أمسيتهم بأن يقدّم مجموعة من اللقاءات المسجلّة الفيدوية مع والده وهو على فراش المرض في ويلز، يبدي فيها آراءه في شؤون الحياة، أضافة الى مقطع فيديو يعرضه وهو يقرأ قصيدته العصماء في حفل تكريمي له في المملكة العربية السعودية حيث كان يعمل في جامعاتها.
وكان أن شارك الأستاذ الفاضل قاسم عزالدين، أخ الفقيد، الجلسة الثقافية التأبينية بقصيدة عينية رثاءا لأخيه جاء فيها:
أتى نعيٌ فطرت به شَعَاعَـــا وهل جزعٌ يُعيد لنا مضاعا
تعاودني الهواجس كــلَّ يومٍ وهـل أقوى عـلى همِّ صراعا
يعيش المرء ما أستحلى حياةً وموتٌ لا يُطيق لـــه دفاعا
ولو دفــع النوائب مستطاعٌ لمــــا نزلت بساحتنا تِباعا
ولو ذرفُ الدموع يُعيد ميتاً لأغرقنــــا المهامِهَ والبقاعا
وإن ألـــوت بنا غِيَرُ الليالي سجيسَ الدهرِ وأنثالت قِراعا
فهذا الحكم للباري قضاءٌ وما يقضي الإلهُ لنــا مُطاعـا

وفي ختام الأمسية عرض الأستاذ الدكتور عبد الرضا عليّ شهادته بشأن أستاذه الفقيد يوسف عزالدين، حيث كان عليّ قد درس على يدي الدكتور عزالدين في دراساته العليا في مصر العربية وجامعاتها في السبعينيات من قرننا الماضي، وقد جاء في الشهادة ما يلي:
“وإذا كانت السنة الأولى قد مرّت بسلام، فإنّنا كنّا في أشدّ الخوفِ في السنة الثانية من درسِ الكتاب القديم الذي كان يدرّسه العلّامة المرحوم يوسُف عزّ الدين، فقد علمنا ونحنُ في السنة الأولى أنه يشترط على الطالب حفظَ ثلاثين صفحة من الكتاب القديم الذي يتمّ أختياره، ويكون الأمتحان في تلك الصفحات شفويّاً أمام الطلاب، فبعدَ أن يتسلّم الأستاذ من الطالب أوراقه المستنسخة بخطّه من كتاب ” العمدة ” لأبن رشيق القيرواني، أو ” الكامل” للمبرّد، يختار له الصفحة التي عليه أن يبدأ منها، وحين يتأكّد من أنّ أستظهاره كان جيّداً، يبدأ بتوجيه أسئلته المتعلّقة بالإعراب، والشرح، وتقطيع الأبيات الشعريّة، وما إليها من أمور معرفيّة.
كان أستاذي عزّ الدين-يقول د عبد الرضا علي- في العام 1974 ، دؤوباً ، سواء أكان في التدريس، أم في التأليف، أم في القراءة، وكان يستعينُ بطبّاعٍ متمرّس يلازمه في شقته الكائنة في حيّ الزمالك، يدفعُ إليه مسوّدات ما يكتبه يوميّاً، وعندما ينجزُ الطبّاعُ عمله يسلّمه إلى شخصٍ آخر يقوم بمراجعة المطبوع، وهذا المراجعُ كانَ أشبه بالسكرتير الشخصي، وهو المسؤول عن إدارة المكتب او الشقّة أو ورشة العمل ( سمّها ما شئت) فضلاً عن قيامه بخدمة الأستاذ، وتلبية احتياجاته التسويقيّة، والإجابة على هواتف المتّصلين من الأصدقاء، والطلبة ؛ وفي تلك الورشة تمّ إنجاز كتابه الموسوم بـ ” القصّة في العراق.. جذورها وتطوّرها” وقد نشره له معهد البحوث في العام نفسه.
كان لي ولزميلي المرحوم مزاحم أحمد البلداوي شرف زيارته مراراً في هذه الورشة/ الشقّة، فأكبرنا فيه ذلك الدأبَ في البحث والتقصّي وتهيئة المحاضرات، لكنه كان يجد في عمله ذاكَ متعةَ العالِم التي تفضي إلى منفعة الناس، وكأنّه أرادَ إشعارَنا بأهميّة الزمن، وضرورة الإفادة من الوقت الذي كان متاحاً لنا آنذاك”.
وقد دعت الجمعية العربية للثقافة في ويلز المراكز الجامعية العراقية والعربية للأحتفاء بالعلاّمة المرحوم يوسف عزالدين وذلك بتخصيص قاعات محاضرات بأسمه وتخصيص أمسيات ثقافية تناقش منجزه الأبداعي والثقافي والفكري وتستنتج منه الدروس والعبر خدمة لأجيال المستقبل. ولعل حلول الذكرى العاشرة لوفاته في عام 2023 تكون فرصة لوزارة الثقافة العراقية بأن تعيد طباعة ما نفد من كتب العلاّمة عز الدين، وتقيم ندوة خاصة بالمناسبة تستذكر فيها الرجل ومنجزه الأبداعي خدمة لمسيرة الوطن الثقافية، وتواصلا مع ماض مجيد فيه الدروس الغنية التي تكفل المستقبل الأفضل للعراق.