23 ديسمبر، 2024 7:36 ص

العلاقة بين الدين والعقل 3/3

العلاقة بين الدين والعقل 3/3

الاتجاه الرابع يناقش الاتجاه الثالث آنفا، بأنه – صحيح – يبدو في الوهلة الأولى أنه يمثل عين التعقل والعقلانية، لأن العقل تكون له كلمة الفصل في الأساسيات، لكنه يدرك أن هناك مجالات فيما هي التفاصيل ليست من اختصاصه. ولكن لو تأملنا في الموضوع جيدا، نجد أن المنهج الثاني هو الأقرب للصواب، لأنه يميز بين ما هو واجب عقلي، وما هو ممكن عقلي، وعندما يوسع مساحة صلاحياته، فلا يعني أنه يرفض كل ما هو ليس بواجب عقلي، بل قد يتوقف عند الممكنات، لحين استكمال البحث عن العناصر المؤدية إلى ترجيح تلك الممكنات، أو رفضها، أو تأويلها، إذا بدت شديدة الغرابة، وإن كانت ممكنة عقلية بحكم العقل الفلسفي، أو لعله العقل الأخلاقي، وأصحاب الموقف الرابع، هم الذين يتوسطون موقعهم بين الموقف الثاني والثالث، وقد يكونون أقرب إلى أحدهما، أي إلى الثاني، أو إلى الثالث، بحسب ما يكون الظن بصدق الوحي عندهم راجحا أو مرجوحا عليه، فكلما ارتفعت نسبة رجحانه اقتربوا من الموقف الثالث، وكلما انخفضت اقتربوا من الموقف الثاني. أما دعوى أن الإنسان يحتاج بضرورة العقل إلى الوحي الذي ينبئه بتشريعات الله له، والذي هو سبحانه أدرى من الإنسان بصالح دنياه وآخرته، ويستدل أصحاب هذا الرأي على صحته بواقع الاختلاف بين أهل العقل – العملي لا الفلسفي – في تحديد الراجح والمرجوح في دائرة المباحات الأخلاقية المحايدة دينيا، فإن هذا الاستدلال قد يبدو في الوهلة الأولى سليما، إلا أنه سرعان ما ينهار أمام واقع اختلاف الفقهاء في جُلّ المسائل، وذلك بدرجة قد تفوق اختلاف العقلاء فيما بينهم. فالفقه إذن لم يعالج الاختلاف بين الناس، وبالتالي يفقد مبرره من هذه الزاوية، أي من زاوية النظر إليه فيما يشتمل على فائدة معالجة الاختلاف، هذا ناهيك عن الاختلافات بين الأديان والمذاهب في الإسلام أو الكنائس في المسيحية، وبين المدارس الدينية والفرق والنحل. وأما هاجس أن استخدام العقل بلا حدود يمكن أن يؤدي إلى الانحراف عن الدين، الذي يثبت بالنص المقدس (الوحي) وحده عند البعض، وثبت عند بعض آخر بالعقل والوحي، يُرَدّ بأنه حتى لو خالف الدين، ناهيك عن كون مخالفة الدين قد تكون هي المطلوبة إيمانيا وإلهيا، لكونها قد تمثل عين الاستقامة والاهتداء، ولكن مع فرض أن مخالفة الدين تمثل انحرافا وضلالا، فهي ليست مخالفة بالضرورة للإيمان، الذي يثبت بالعقل المجرد والمحايد، مضموما إليه الفطرة الإنسانية، وبالتجرد من مسلَّمات مُسبَقة أقرب إلى الصواب، إضافة إلى حقيقة أن الله يثيب الإنسان على صدقه إلى جانب إنسانيته فيما توصل إليه، ولا يعاقبه على خطئه، بسبب قصور فيه، وليس تقصيرا منه، أو عنادا، أو اتباعا للهوى المعبِّر عن الأنانية. فهو انطلق فيما توصل إليه من منطلقات صحيحة ومُحبَّبة عند الله سبحانه، حتى لو توصل إلى نتائج خاطئة، فالله كما يزن عمل الإنسان بمعيار النية، إنما يزن فكره وقناعاته وعقيدته بمعيار منطلقاته، إضافة إلى كل المؤثرات الذاتية والموضوعية، ومعيار الجزاء الإلهي عندي وبحكم ضرورات العقل الفلسفي هو درجة الاستقامة الإنسانية للإنسان، وليس إيمانه أو كفره.