العلاقة الجدلية بين أفول القارئ وتراجع سلطة المثقف

العلاقة الجدلية بين أفول القارئ وتراجع سلطة المثقف

الأطروحة في زمن السيولة المعرفية

يُنظر إلى “أفول القارئ” باعتباره مقدمة منطقية وحتمية لتراجع سلطة المثقف. فالمثقف، في وظيفته الأساسية، هو منتج للفكر العميق والتحليل المُعقَّد. يتطلب هذا المنتج الفكري وجود “سوق استقبال” مؤهَّل اجتماعياً ومعرفياً، وهو القارئ الذي يمتلك الأدوات اللازمة لفك شفرة الإنتاج المعرفي، ويكون مستعداً لتحدي التصورات الراسخة. إن غياب هذا القارئ المتلقي يجعل إنتاج المثقف بلا سند أو فاعلية اجتماعية، مما يؤدي إلى إلغاء دوره الوظيفي وتجريده من مرجعيته، أي زواله الاجتماعي والرمزي.

لقد كان المثقف في الماضي يمثل “الضمير الحي للمجتمع”، و”العقل الذي يستشرف المستقبل”، و”اللسان الناطق باسم الحقيقة”. كما كان يوصف بأنه “حارس للضمير الجمعي” و”قنديل ينير دروب المجتمعات”. هذا الدور المحوري لم يكن ليتحقق إلا بوجود عمق نقدي ورصيد معرفي، وجمهور يمتلك القدرة على التفاعل النقدي مع هذا العمق. أما اليوم، فقد أصبح المثقف نفسه يعيش أزمة هوية عميقة. إنه لم يفقد بالضرورة أدواته الفكرية، ولكنه فقد موقعه ودوره في عالم يميل بشدة نحو السرعة، والتبسيط المُخل، والضوضاء التي تخلق رموزاً وهمية على حساب المفكرين الحقيقيين.

القراءة العميقة كركيزة للتنوير

تُعرّف القراءة العميقة (أو المعمقة) بأنها ممارسة تتجاوز مجرد الاطلاع على الكلمات. إنها تتطلب الغوص في مكامن النص، وتحليله ذاتياً، والخروج بحصيلة معرفية متماسكة. إنها ليست مجرد عملية تجميع منطقي أو مراكمة للمعلومات، بل هي عملية ديناميكية نفسية تتمثل في التوجه إلى العالم بسؤال، واختيار المعارف التي يستحسنها القارئ، ودمج تجربة القراءة مع تجربة الحياة. هذه العملية التحليلية هي ما ينمي القدرة على التحليل والنقد ومهارة التفكير النقدي لدى الفرد، وهي مهارات أساسية لمواجهة تحديات الحياة المعاصرة.

تشريح ظاهرة “أفول القارئ

الكلاسيكيات المنسية

كان القارئ في الأمس يمتلك فسحة من الوقت، وكان يقرأ بشكل منهجي من خزائن التراث العربي والعالمي. كان القارئ التقليدي يتجول بين أعمال الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والشعر الجاهلي، مروراً بجبران خليل جبران والمنفلوطي ونجيب محفوظ. وعلى الصعيد العالمي، كان لزاماً عليه أن يقرأ أوديسة هوميروس، وكتب الماركسية، والوجودية، وكلاسيكيات الأدب العالمي لديستويفسكي وتولستوي وصولاً إلى جاك لندن وهمنغواي. أما اليوم، فقد أصبح القارئ يفضل الكتب التي “لا تتطلب وجع دماغ”، ويجد نفسه محاصراً بقائمة الكتب “الأكثر رواجاً”. هذا التحول من القراءة المنهجية إلى القراءة المسلية يعكس تآكلاً حقيقياً للخزانة المعرفية المشتركة، ومن المثير للقلق أن هذا الإحجام لا يقتصر على الكلاسيكيات العالمية المعقدة، بل يطال الأركان الأساسية للسرد العربي. هذا التجاهل لأعمدة السرد العربي يشير إلى أزمة أعمق في البنية الثقافية المحلية، ويدل على أن الأسس المعرفية للثقافة العربية المشتركة تتهاوى، مما يترك المثقف العربي معلقاً بلا جذور ثقافية يتشاركها مع جمهوره.

القراءة السطحية مقابل القراءة العميقة

يشير الخبراء إلى وجود نمطين رئيسيين للقراءة في العصر الحديث: القراءة السطحية والقراءة المعمقة. القراءة السطحية هي التي يمر فيها الفرد “مر الكرام” على أشياء قد تهمه أو لا تهمه، كقراءة عناوين الصحف أو ما يرد على وسائل التواصل الاجتماعي. وتُعرف هذه أيضاً بالقراءة المسحية أو الأفقية، وتهدف إلى الاطلاع العام. في المقابل، تتطلب القراءة المعمقة هدفاً محدداً يقتضي الغوص في مكامن النص والخروج بحصيلة معرفية وتحليل ذاتي للمحتوى. وهي القراءة التي تنمي القدرة على التحليل والنقد. إن تراجع القراءة العميقة ينذر بمحو جزء كبير من تراث الإنسانية الإبداعي من ذاكرة “قارئ كسول، لا يقرأ إلا ما هو متاح أمامه”. إن هذا التحول في نمط الاستهلاك المعرفي هو السبب الجذري لانفصال المثقف عن جمهوره.

الثقافة البصرية وتأثير البيئة الرقمية على الإدراك

أثبتت الدراسات أن الكميات الضخمة من المعلومات وسرعة التنقل بينها وتعدد المهام في البيئة الرقمية تؤدي إلى تشتيت التركيز، مما ينتج عنه “تفكير وفهم أقل” مقارنة بالقراءة المطبوعة. ويعود ذلك إلى المرونة العالية للدماغ، الذي يتكيف مع البيئة المحيطة. فإذا كان الدماغ في بيئة قراءة سريعة تتطلب القليل من التركيز والانتقال المستمر دون تعمق، فإنه يتكيف لزاماً على ذلك، مما يؤثر على قدرته على تطوير مهارات التركيز الطويل. وكشفت أبحاث (كوفمان وفلاناغان 2016)* عن فجوة نوعية في مستويات الفهم. فقد أظهرت النتائج أن الطلاب الذين يقرؤون رقمياً كانوا أفضل أداءً في الإجابة على الأسئلة الملموسة المباشرة، بينما كان أداء أولئك الذين يقرؤون في المطبوعات أفضل في الأسئلة المجردة العميقة. هذه الفجوة لها تبعات وخيمة على دور المثقف، إذ تشير إلى أن القراءة الرقمية لا تضر المثقف بزيادة منافسيه فحسب، بل إنها تعمل على تفكيك البنية العقلية اللازمة لمعالجة منتجه الفكري. إن نتاج المثقف (النقد، التحليل، النظرية) هو بالضرورة مجرد وعميق. وإذا كان الجمهور مبرمجاً عصبياً (بفعل مرونة الدماغ) على الفهم السطحي والملموس فقط، فإن النص النقدي العميق يصبح غير قابل للمعالجة. ويؤدي ذلك إلى عزل المثقف بشكل أعمق بكثير مما توحي به العزلة الاجتماعية التقليدية.

على الرغم من أن التكنولوجيا الرقمية وفرت مساحات شاسعة من الحرية وأتاحت منصات معرفية هائلة للمثقف، فإنها فرضت نمط استقبال لا يدعم المحتوى العميق، مما جعل هذه الحرية المتاحة فارغة بالنسبة للمنتج الفكري الجاد. فالمنصات الرقمية، وإن كانت قد أزالت القيود التقليدية، أصبحت ساحة صراع لم يعد فيها التنافس قائماً على جودة الفكرة، بل على قدرتها على الانتشار. المثقف الذي يحاول الحفاظ على عمقه يجد نفسه أمام تهميش ممنهج من قبل آليات رقمية تخدم ثقافة الاستعراض، وتفضل “الصراخ” و”الضجيج” على “الحوار” و”الفكر”. وبذلك يتحول الفضاء الرقمي من مساحة تحرير إلى شكل من أشكال “الاستبداد الرقمي” الذي يحاصر أصحاب الكلمة الجريئة في كهوف الصمت.

أزمة المثقف في عالم ما بعد القارئ

شهدت العقود الأخيرة صعود نخب جديدة لا تستمد قوتها من المعرفة العميقة، بل من قدرتها على التأثير في عالم منصات التواصل الاجتماعي. وباتت الثورة الرقمية تكسر احتكار المثقفين التقليديين وتخلق حاملين جدد للمشاريع الثقافية، مُشكلةً نماذج مستحدثة من الفاعلين الشبكيين. لقد أدى هذا التحول إلى تبديل في مفهوم المثقف ودوره في الفضاء العام. فبدلاً من أن يكون فاعلاً مسنوداً بالمعرفة والإبداع والخبرة الأكاديمية، أصبح مجرد “الناشط الرقمي والشبكي الثوري” المسنود بـ “عدد المتابعين المُحرضين”. لقد تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح التفاعل الرقمي هو المعيار للحضور، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والعمق. مع غياب القارئ العميق وحاجة المستهلك الحالي إلى السرعة والتبسيط، يضطر المثقف إلى التحدث بلغة الجمهور المستهلِك الذي يفتقر إلى أدوات النقد. إن هذا التبني للخطاب التبسيطي هو استجابة مباشرة لغياب الجمهور القادر على هضم العمق. وبالتالي، حتى عندما يبدو المثقف فاعلاً، يكون قد ضحى بوظيفته الأساسية (النقد والعمق)، مما يجعل انقراضه الوظيفي كاملاً.

تجليات الأزمة الاجتماعية والسياسية للمثقف العربي

أزمة الدور الأخلاقي: الخيانة، الصمت، التسلق

يواجه المثقف العربي تحدياً أخلاقياً كبيراً يرتبط باتهامات بالخيانة للدور المنوط به. وتتجسد هذه الخيانة في ثلاثة أصناف رئيسية:

المنحاز: الذي يوظف إمكاناته للدفاع عن قضايا معينة قد يميل لها، مهملاً قضايا أخرى لا تقل أهمية.

الصامت: الذي ركن للعزلة وانتفاء المشاركة والتفاعل (سواء كانت عزلته إجبارية أو اختيارية).

المتسلق: الذي يختار بعناية قضية ليجعل منها مطية لمنافعه الشخصية ومآربه الآنية.

النخبوية الجامدة وتعميق الفجوة

ساهم بعض المثقفين العرب في تعميق الأزمة من خلال نمط سائد من “النخبوية الجامدة”. تتجلى مظاهر هذه النخبوية في استخدام اللغة الخشبية والمعقدة في الخطاب الموجه للجماهير، دون مراعاة للاختلاف في مستويات التلقي والفهم. هذه الممارسة تساهم حتماً في تعميق الفجوة بين المثقفين وعامة الناس، مما يجعل المثقف التقليدي النخبوي “متأخراً وبطيئاً” في مواكبة قضايا العصر.