23 ديسمبر، 2024 10:47 ص

العقل و أسئلة الجدل التأريخي ..

العقل و أسئلة الجدل التأريخي ..

لا ينفك حديث التاريخ عن العيش مع المجتمعات التي تجد فيه الطريق الاسلم و الاصح لحياة يجب ان تتوارث قصص الماضين كترياق منعش و ملهم لأرواحنا المنهكة من ظلام الحاضر! ليست أحداث التاريخ غثة بالمعنى الإجمالي, لكنها لا تصلح ان تكون نسخة فاعلة لطبيعة حياة مختلفة و متطورة و آخذة بنسق التقدم العلمي.
المجتمع الذي يركن على قصص التاريخ غالباً ما نجده منقسماً و متناحراً, يحاول إحراز التفوق بحفظ العدد الأكبر من أحداث و روايات التاريخ, تبدأ الخصومة عندما يصطفي و يتنخل كل طرف لقصص تاريخية توثق و تدعم من مشروعيته. متغافلين عن المنهج العلمي الذي يدرس الاحداث بمعزل عن الانتماء الإيجابي او الاختلاف السلبي.

اتصل بي أحد الأشخاص وهو صديق قديم و طيب جداً, طلب مني بلغة تنم عن أدب جم و تواضع مفرط ان أشاركهم في جلستهم التي ستكون بعد ساعات, لبيت الدعوة, واذا به هو و صديقه الذي لم ألتقيه من قبل, بدأ صاحبي بالترحيب و الاستقبال الحار, جلسة ودية تحاول إزالة هموم الحاضر فتنتقل من حديث السياسة و الوضع الراهن الى ماهو أعمق. وبما ان حديث التأريخ لا يفارق المجتمعات العربية, تحدث صاحبي عن حديث أحد الإعلاميين العرب الذي يروي فيه, قصة المفكر الفرنسي روجيه جارودي و حبه للإمام علي بن ابي طالب,فعندما كان جارودي يُدّرِس في جامعة السربون, سألته أحدى طالباته اراك تتحدث دائماً عن شخص مسلم إسمه علي فمن هو علي,يحدثها جارودي عن علي من أنه ابن عم النبي محمد واحد قواده. يستمر صاحبي في سرد رواية الإعلامي العربي وكيف ان جارودي سأل طالبته عن الأعضاء المهمة في الانسان, ثم قال لها ان علي ضُرب بسيف على رأسه, أودت بحياته, بعد يوم من ضربته تلك أوصى ولده الحسن بوصية. فقال له أرفق يا ولدي بأسيرك و ارحمه و أحسن اليه و اشفق به بحقي عليك, أطعمه مما تأكل و أسقه مما تشرب, ولا تقيد له قدماً, فإن انا مت فإقتص منه بضربة واحدة,ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فان المثلة حرام ولو بالكلب العقور. لم تلبث الطالبة طويلاً حتى بدأت بالبكاء وهي تسمع هذه الصورة العظيمة.

يكمل صاحبي قصته التاريخية وحديث جارودي عنها, القصة التي سمعتها أكثر من مرة وانتشرت عبر مواقع التواصل بكثرة.ركز صاحبي على عظمة حقوق الأسير و التعامل معه برفق حتى انه توقف كثيراً عندما قال الامام أسقيه مما تشرب و اطعمه مما تأكل ولا تحرقه بالنار. أكمل صاحبي حديثه, فتكلم صاحبنا الاخر موجهاً سؤالاً الى صاحبي, قال له, هل لك ان ترشدني الى كتاب جارودي الذي يتحدث عن هذه القصة و ما قاله هذا الإعلامي؟ قال صاحبي لا أعرف الكتاب ولم أقرأ لجارودي يوماً من الأيام. إلتقط صاحبنا الثالث قصاصة ورق رأيته يكتب عليها عندما كان يستمع الى حديث الإعلامي عن جارودي, ثم قال من يقول ان الامام علي فعلاً أوصى بهذه الوصية,قال له هذا مايرويه بعض المؤرخين منهم الطبري, أكمل حديثه الممتلئ بالاسئلة قال هل تؤمن بقصص و أحداث التاريخ قال صاحبي نعم. قال اذا كان الامر كذلك يجب ان تستوعب أحداث التاريخ و مكر التاريخ و دسائس التاريخ و حقائقه, إياك ان تلتقط ما يصب بمصلحتك مهملاً النصف الثاني من الكأس الذي ربما يكون أدهى و أمر من النصف الأول. قال له كيف؟ قال صاحبنا الاخر, أعرف ان الامام علي أوصى بوصيته تلك حول قاتله عبدالرحمن بن ملجم, فهي مذكروة في كتب عديدة. لكن هل تعلم كيف قُتل ابن ملجم بعد استشهاد الامام علي؟ قال صاحبي أعتقد انه قتل بضربة واحدة من الامام الحسن. أجابه على الفور قال له لا ليس كذلك, قال صاحبي اذن كيف قتل؟,أكمل صاحبنا حديثه,قال لقد قتل ابن ملجم بطريقة بشعة جداً, طالما حذر منها الامام علي, لن أذهب الى كتب التاريخ التي يعتمدها عامة المسلمين, بل سأروي لك ما يرويه المسعودي في كتابه مروج الذهب, و المسعودي قيل انه معتزلي أقرب للتشيع.

يقول: ولما أرادوا قتل ابن ملجم قال عبدالله بن جعفر : دعوني حتى اشفي نفسي منه فقطع يديه و رجليه و أحمى له مسماراً حتى صار جمرة كحله به .. ثم ان الناس أخذوه و أدرجوه في بواري ثم طلوها و أشعلوا فيها النار فاحترق . مروج الذهب ج2 ص322

يكمل صاحبنا حديثه, نحن أمام خيارات عدة و أسئلة مهمة و جوهرية. أما ان يكون الامام علي لم يوصي بأسيره وهذه قصة مختلقة او أن أبناء الامام علي و أولهم الحسن لم يستجب لوصية والده ولم يطبقها, اذا قلنا ان الامام لم يوصي فعلاً فستسقط قصة جارودي و مثيلاتها أما اذا أقررنا بالوصية فيجب ان ندين أبناء الامام علي, لقضيتين مهمتين:

الأولى هي عدم تطبيقهم لوصية والدهم

الثانية قتلهم و تمثيلهم بالقاتل مما لا يتطابق مع الشريعة الإسلامية.

أسئلة محرجة فعلاً, لم يشأ صاحبي الحديث مع هذا النوع من الأسئلة ولم يجد له بد من السكوت. تدخلت حينها لكي أجيب على النصف الأول منها. قلت أما عن وصية الامام علي فهي شبه متواترة في الكتب التاريخية, وعندما ندرس القضية بمعزل عن الرواية و الشخص, سنجد أنها قريبة من نمط و روح علي بن ابي طالب, لا أشك من أنه أوصى تلك الوصية العظيمة. أما عدم تنفيذ الوصية فهذا أمر أخر ربما سيجيبك عنه شخص أخر. انتهت الجلسة.

شراهتنا بالحديث عن التاريخ لم تتقدم بنا خطوة و ركوننا و إعتمادنا عليه اخرنا قروناً عن مسيرة العالم المتطور, واذا كان ولابد من إثارة أسئلة الجدل بين التاريخ و الدين من جهة و العقل من جهة أخرى, سنجد ان هناك أسئلة تنبثق من داخل الدين و التاريخ لم يجد لها أصحابها من حل غير الترقيع و التبرير المسف, سؤال الدين من داخل الدين سيطرح إشكالاته النقدية هذه المرّة في ضوء البحوث المنهجية المهمومة بالانتقال من مهمة تجديد الخطاب الديني، إلى مهمات تجديد الفكر الديني ذاته، لأنه لن يكون بالإمكان تجديد الخطاب من دون تجديد الفكر، ولا سيّما بجعله يستجيب للتطورات والمتغيّرات ويتساوق مع روح العصر.