يقول الامام السبط الشهيد الحسين بن علي ( عليه السلام ) في مقطع من دعاء عرفة :
” كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك؟ حتى يكون هو المظهر لك. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا. وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا … ”
وهذه الكلمات لن تستطيع ان تجد لها شبيها ولا مثيلا إلا في كتاب الله تعالى، وعند عدله رسول الله وآله الاطهار ( صلوات الله عليهم ).
ولكن ماذا عن المعاندين والشاكين والملحدين، الناكرين لوجود الخالق ( جل ذكره وثناؤه )، هؤلاء الذين لا يؤمنون أيضا لا بالآخرة ولا بالحساب ولا بالجنة ولا بالنار . هل ينفع معهم مثل هذا القول وكفى؟. بالتأكيد أن هؤلاء بحاجة الى أدلة عقلية، دنيوية حسابية أي ( الربح والخسارة ) وهذا الأمر جزء لا يتجزء من أعتقادهم بطبيعة الحياة المحدودة بهذه الدنيا لا غيرها، وإن النهاية هي الموت وليس بعده شيء.
لنقرأ هذه القصة معا ولنتعرف على مصداق لما ذكرنا :
قال الامام الصادق (عليه السلام) لأبن أبي العوجاء الملحد :
إن يكن الامر كما تقول، وهو ليس كما تقول، نجونا ونجوت.
وإن يكن الامر كما نقول، وهو كما نقول، نجونا وهلكت .
أي أن العقل يحكم بمنطق الربح والخسارة، وبحساب الاحتمالات، وخاصة أذا كانت مستندة الى أدلة عقلية كثيرة وكبيرة، ولها من تأييد العقلاء الماضين والحاضرين، ممن شهد لهم العدو والصديق بالحكمة والمعرفة والصدق، كالأنبياء والرسل وائمة أهل البيت ( صلوات الله عليهم )، وكذلك الصالحين والحكماء والعلماء، من الذين أمنوا بالله والغيب.
وقد صب أبو العلاء المعري، هذه الحادثة، في قالب من الشعر يقول فيه :
قال المنجم والطبيب كلاهما لن تحشر الاجساد _ قلت اليكما
أن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما .
وقد أعطى أئمة أهل البيت ( صلوات الله عليهم ) في كل مناظراتهم وحواراتهم الكثيرة مع ( الزنادقة والملحدين )، وحتى أسئلة المجتمع بمختلف طبقاته العلمية والثقافية والدينية والمذهبية، الدروس والعبر في كيفية التعامل مع مثل هذه المواقف والشخوص، وعلى قاعدة ( كلم الناس على قدر عقولهم )، وكمثال على ماذكرته، أورد الرواية الأتية، وهي من مناظرة لمولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق ( صلوات الله عليهما ) .
دخل أبو شاكر الديصاني – و هو زنديق ملحد – على الإمام الصادق ( عليه السلام )
وقال : يا جعفر بن محمّد، دلِّني على معبودي؟.
فقال له ( عليه السلام ) : إجلس، فإذا غلام صغير في كفِّه بيضة.
فقال ( عليه السلام ) : ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها.
فقال ( عليه السلام ) : يا ديصاني، هذا حصن مكنون، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة، وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضَّة الذائبة، ولا الفضَّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح، فيخبر عن إصلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد، فيخبر عن إفسادها . لا يُدرى للذكر خلقت أم للأُنْثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى له مدبِّراً ؟ فأطرق الديصاني مليّاً ثم قال :
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأنك إمام وحجَّة من الله على خلقه، وأنا تائب [ إلى الله تعالى ] ممَّا كنت فيه .
إن العقل والفطرة السليمة يمكنهما من الوصول الى حقيقة الإيمان ب( الله ) سبحانه وتعالى، فالكون بكل مافيه، في الأرض وفي السماء، في أصغر مخلوق وموجود، الى أكبر مخلوق وموجود فيهما، يصرحان ويصرخان فينا ( أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ؟! ) حاشا ( لله ) أن يكون كل هذا الإبداع، في الكون الواسع، من صنع صدفة غبية كغباء أصحابها. ومن جميل ما يورد في هذا المقام هذه الحادثة التي نقلتها لنا الكتب، والتي حدثت مع ( أبي حنيفة النعمان ) أمام المذهب الحنفي .
تقول الرواية كان أبو حنيفة على موعد مع ملحد لمناظرته… وفي الميعاد المحدد ذهب متأخرا… ولما سئل عن ذلك قال :
لم أجد ما يحملني إليكم، وبينما أنا مشغول بالبحث عن وسيلة تنقلني، إذا بالشجر يخلع نفسه من الأرض لوحده، ويتجمع مع بعضه، ويصنع قاربا لوحده، ثم جاءت مسامير ودقت نفسها في القارب لوحدها، فركبت هذا القارب وجئت إليكم .
فقال له الملحد: هذا لا يقبله عاقل… كيف يُصنع القارب بدون صانع؟
فرد أبو حنيفة : وكيف تقبل فكرة صُنع كل هذا الكون دون صانع يوجده ويسيره ؟!.
ولله در تلك العجوز، صاحبة المغزل وما أستدَلتْ به بهذا الشأن، من بساطة المثال، وعظيم الفكرة، و ذلك عندما سألت عن وجود( الله ) تعالى ذكره وشأنه، فقالت :
( هذا مغزلي، إن حركتهُ تحرك، وإن تركتهُ سكن وأستقر، فكيف يكون الكون المتغير يتحرك بدون محرك له؟! )
أو ذلك الاعرابي البسيط في الصحراء، حين رأى الآثار فقال :
(إن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير)
وهكذا فكل منهما قد أستدل عليه بما هو قريب منه، فالعجب العجب ممن يدعي العلم والمعرفة والثقافة ثم ينكر ويتنكر لخالقه وسيده وربه، وعجز أن يصل الى ما وصلا اليه العجوز والاعرابي .