لا يشك اثنان في أن الهيمنة الإيرانية على العراق ساعدها وأغراها بالاستقواء في سوريا ولبنان، ومحاولة التمدد في البحرين، ثم أخيرا في اليمن. وقد أيقضت هذه التوسعات غرور القوة وشهوة التعالي لدى كثيرين من المسؤولين في طهران.
ثم تصاعدت حدة تصريحاتهم النارية التي يدسون فيها كثيرا من التهديد المبطن، ليس للعرب المعارضين لنوازع إيران، والخائفين على أمن شعوبهم، وحدهم، بل دفعتهم الغفلة إلى تهديد دول كبرى لا يوافقها الدورالمتغطرس الذي يصر النظام الإيراني على فرضه على المنطقة والعالم.
وكان التهديد الدائم المتكرر الذي ظن قادة النظام أنه كفيل بترهيب المعارضين لتوسعها هو مهاجمة منابع البترول في غرب الخليج، ليس بالكلام وحده، بل بالعمل. فقد أقامت إيران قواعد ثابتة لطائرات بدون طيار على مداخل مضيق هرمز، زيادة في التحدي والاستفزاز. ثم جاءت القفزة الإيرانية الأخير للهيمنة على باب المندب.
وليس لهذه الاندفاعة الإيرانية تفسير سوى أن هذا النظام قرر التخلي نهائيا عن سياسة المعقول والمقبول في ميزان القوى الإقليمي والدولي في المنطقة، واعتمد سياسة العضلات، دون حكمة، وبلا قراءة متبصرة للجغرافيا وللتاريخ.
بعبارة أوضح. لقد توهم النظام الإيراني بأن انتزاع الهيمنة على المضائق والمعابر البرية والبحرية في المنطقة كفيل بتركيع دول الإقليم، وإجبار المجتمع الدولي على القبول بأمرها الواقع، والتسليم لها بدورها الجديد.
ونسي حكام إيران ما دفعه الشعب العراقي والعرب والإقليم من أثمان باهضة لطموحات صدام حسين غير المشروعة وغير المقبولة، ولظنه بأنه بإضافته نفط الكويت إلى نفط العراق، سيستطيع إدارة النفط الخليجي، بعد ذلك، وإخضاعه لسلطانه بقوة السلاح، ليضع العرب والعالم في قبضته الجيدة التي لا تقهر.
ويندرج ضمن فورة المفاخرة الإيرانية هذه تصريحٌ مثيرلا ينسى أدلى به الفريق يحيى رحيم صفوي، القائد السابق للحرس الثوري والمستشار العسكري للمرشد علي خامنئي، أعلن فيه أن “حدود إيران الغربية لا تقف عند الشلامجة (غرب الأهواز)، بل وصلت إلى شواطيء البحر الأبيض المتوسط جنوب لبنان”.
وهنا يحق لنا أن نتساءل، ماذا بعد شواطيء البحر الأبيض المتوسط؟ وهل تعتقد النخبة الحاكمة في طهران بإمكانية المحافظة على التواجد العسكري والسياسي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، والاحتفاظ به إلى أمد قادم طويل، بالرغم من عوامل عديدة واقعية وطبيعية تعمل على هدمه وإفشاله وقلبه إلى هزائم متواترة متتالية لابد أن تأتي عن قريب؟
وفي التاريخ أمثلة عديدة على امبراطوريات ضخمة عديدة أغراها التوسع السهل فبعثرت جيوشها في بلاد كثيرة فأصيبت بداء الترهل وسرطان التآكل الذاتي وانهارت وتناهبت الأممُ المضطهَدة أسلابها، ومنها الخلافتان الأموية والعباسية، والمغولية والبرتغالية، والبريطانية، وسلالة تشينغ (آخر أسرة حاكمة في الصين)، والامبراطورية الاسبانية، ثم الفرنسية، والروسية وغيرها من ممالك وامبراطوريات سادت ثم بادت وتحولت إلى قصص وحكايات عن الغرور الذي لا يقتل غير أصحابه المجانين.
إن الظلم الكبير الذي أوقعه وسيوقعه النظام الإيراني بمواطنيه وبأتباعه من الشيعة العرب أكثر من ظلمه لخصومه وأعدائه الكثيرين. فهو يجعلهم طعام نار لا ترحم ولا تنتهي.
مع فارق كبير مهم بين أوضاع تلك الامبراطوريات البائدة وبين الامبراطورية الخمينية الجديدة. فالسابقات جميعُها كانت تتمول من مستعمراتها الغنية، بوسائل وطرق متعددة. أما الهيمنة الامبراطورية الإيرانية الحالية فتقوم على عكس ذلك تماما. حيث تتحمل خزانة الدولة الإيرانية جميع نفقات العديد من المليشيات والجحافل والأحزاب والتنظيمات وإعاشتها وحمايتها وتسليحها وتدريبها في الدول التي تستعمرها أو تحاول استعمارها. إضافة إلى ما تدفعه لشراء ذمم رؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات ووزراء ونواب وسياسيين وإعلاميين لتسهيل الاحتلال.
وسوريا وحدها، مثلا، تأكل قسما كبيرا جدا من عوائد النفط الإيراني. فكل صاروخ وبرميل متفجر وقذيفة مدفع، وكل دبابة وطائرة تدفع ثمنها إيران، وتدفع أيضا جميع احتياجات النظام السوري (الإعاشية) ورواتب جيشه وشبيحته وأعوانه السوريين واللبنانيين والعرب الآخرين. وقد أذيع مؤخرا أنها تشتري مقاتلين من أفغانستان بمرتب شهري قدره 500 دولار، مع نفقات الإقامة لإعانة الجيش السوري.
ورغم أن حزب الله اللبناني يملك موارد تمويل ذاتية من زراعة المخدرات في البقاع وتجارة السلاح إلا أنها لا تكفي لشراء كل ما يحتاجه لتعزيز ترسانته التسليحية اللازمة في لبنان، ولوازم قتاله في سوريا، فيلجأ هو الآخر إلى التمول من جيب الولي الفقيه. أما حاجات الفقراء الحوثيين لقتال أشقائهم اليمنيين والتحرش بالسعوديين وإقلاقهم فكبيرة، وتكاد تشمل كل شيء، من البندقية والرشاش والمدفع والصاروخ والسيارات والمعدات القتالية الضرورية الأخرى، وإلى اللباس والطعام والشراب والسكن والتنقلات ومصروف الجيب. ولولا المال الآتي من طهران لماتت الحركة الحوثية من زمان. والشيء ذاته يقال عن معارضة البحرين وفلسطين.
أما العراق فبالرغم من كونه بلدا غنيا لا يحتاج إلى المال الإيراني، إلا أن حكومة حزب الدعوة ليست مطلقة اليد تماما لتنفق من المال العراقي العام على أكثرمن 6 آلاف مقاتل عراقي يرسلهم نوري المالكي للقتال في سوريا. فهي تدفع بعضا من التكاليف، وتتحمل الخزانة الإيرانية ما يتبقى.
وقد تنبه أكثر من مسؤول إيراني كبير إلى هذه الحقيقة، ووضعها في اعتباره. وقد كان آخرهم نائب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، العميد غلام علي رشيد، حيث قال “إن إيران تساند سوريا دون حدود لأنها تمثل ‘جبهة الدفاع الأمامية عن الثورة الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية'”، مشيراً الى أن “سقوط النظام في سوريا يعني بداية للإطباق على ايران، وجرها الى حرب مفتوحة غير محسوبة”.
أما الغفلة الأكبر التي أقام النظام الإيراني أقام كيانه وعلق مصيره عليها فهي افتراضه الواهم أن المارد النائم لن تحين له يقظة، وأن أسنانه هي الباقية، وحدها، على مر العصور.
ولم يطل الزمن حتى أفاق الغضب والحلم وبلغ الصبر نهايته، وعاد العقل العربي إلى أصحابه، واستفاقت الحمية، وتفجر الشمم والإباء، ليقول كفى، وعلى الباغي لابد للدوائر أن تدور.
وقد لخص وزير الخارجية الأميركي جون كيري مأزق إيران في سوريا حين خاطب الأسد قائلا: “نحن لن نختفي، والمعارضة السورية لن تختفي”. ومعنى هذا أن عملية إشغال إيران مستمرة وناجزة وفاعلة لإغراقها في حروب الاحتفاظ بوجودها على شواطيء البحر الأبيض والأحمر الذي لن يدوم.
وكثيرون يؤمنون بأن أية خسارة إيرانية في اليمن، وهي واقعة، لابد أن تجر معها خسارات آخرى في سوريا والعراق، ثم لبنان، وربما في إيران ذاتها. فهذا هو منطق التاريخ الذي لم يتبدل ولن يتبدل إلى أبد الآبدين.
والصدمة التي أحدثتها (عاصفة الحزم) في أوساط إيران العربية تفضح ذلك بما لا يحتاج إلى دليل. وأهم ما فعلته (العاصفة) أنها وضعت الامبراطورية الجديدة في مأزق سياسي وعسكري من نوع فريد.
فماذا ستفعل؟ هل ترتكب حماقة جديدة، فتقتحم الأسوار الحديدية التي أقامها السلاح العربي حول الحوثيين وتشعل حربا دامية مدمرة في بلد يبعد عن حدودها آلاف الأميال؟، أم تبلع الهزيمة، ويتجرع وليها الفقيه كاسا أخرى من السم، وتترك أبناءها (الحوثيين) الذي غررت بهم طعاما لحيتان البحر الأحمر، فتفقد احترام شعبها ذاته قبل سواه؟. وغدا سوف نرى ما يكون.