18 ديسمبر، 2024 6:48 م

العقل الحر شرط للتعايش 2/2

العقل الحر شرط للتعايش 2/2

عندما نحرر عقولنا، أي نتحرر من الداخل، وبموازة ذلك، عندما نتحرر من الخارج، عندها سنشعر بالأمن الداخلي، بتحرير أنفسنا من الخوف من طرح الأسئلة ومزاولة التفكير وإعمال العقل، ومن خوف الوصول إلى ما يحتمل الخطأ، مما يعد في أدبيات الدين كفرا وارتدادا، أو سوء عاقبة، وبالأمن الخارجي يأمن بعضنا البعض، عندها لا يخاف أحدنا من أن يفكر، ولا يخاف من يشك، ولا يخاف من أن يفصح، ولا يخاف من أن يطرح الأسئلة اللامسموح بها، ولا يخاف من أن يعبر عن عدم قناعته بالإجابات، لا يخاف من أن ينقد ويعارض.

علينا أن نكف عن اعتبار الاختلاف مشكلة، وأن نجذر وننشر وعي وثقافة ألا مشكلة في أن نختلف. وهذا يتطلب أن ندرك وجوب الإقرار بإن الإنسان، فيما لا يخضع للتجربة وأدوات العلوم الطبيعية، عاجز عن اكتشاف الحقيقة، وكما يجب معرفة إن موازين العدل توجب ألا يعاقب العاجز على عجزه، ولا يؤاخذ القاصر على قصوره، ومن قبيل الأولى ألا يعاقب من قبل من جعله عاجزا وقاصرا، إذا سلمنا بوجود الخالق العادل الحكيم.

إذن من متطلبات التعايش أن نترك التكفير، وليكن وحده التخطيء مسموحا به، وأن يعد هذا حقا متكافئا للجميع، لا تحتكره الأكثرية لنفسها حصرا، وتمنعه عن غيرها، وألا يكون ذلك مسموحا للغير المغاير ابتداءً، بل كذلك للغير المتحول من الوسط الخاص.

لكننا عندما نطرح التخطيء كبديل عن التكفير، وكحق متكافئ للجميع، يجب أن ندرك أن الذي يخطئ غيره، والذي يرى نفسه أنه على صواب، عليه أن يعترف – التزاما بمبدأ النسبية – بأن صوابه نسبي، وبالتالي يختزن قدرا من الخطأ، كما إن خطأ من يخطئه نسبي، وبالتالي يختزن قدرا من الصواب، وبالتالي فهما متساويان تساويا نوعيا لا كميا من حيث إن في عقيدة كل منهما قدرا من الصواب وقدرا من الخطأ، والاختلاف يكون في النسبة، وفي تقدير كل من الطرفين لنسبة الصواب والخطأ عند كل من الذات والآخر.

وفيما يتعلق بالصواب في قضايا ما وراء الطبيعة، فمن المهم جدا أن ندرك أن ليس المهم، ناهيك عن أن يكون من الواجب أن نكون مصيبين، بل المهم هو أن نتحرى الصواب، وأن يملك البعض حق اتخاذ قرار عدم التحري. والأهم من أن نتحرى الصواب – إذا شئنا – هو أن نكون صادقين. وهنا وبلغة اللاهوت العقلي المنزه لله عن الظلم أقول: إن الله يثيب الصادق على صدقه ولا يؤاخذه على خطأه، ففرق بين صدق القائل وصدق المقول، أو بتعبير آخر بين صدق القائل وثبوت أو صحة المقول. فأن يكون المرء صادقا، فإنما هذا باختياره، ولكن أن يكون مصيبا، فهذا ليس باختياره، وبالتالي فالصادق يثاب لأنه صدق باختياره، والمخطئ لا يؤاخذ، لأنه أخطأ بغير اختياره.

ومع التسليم بوجود الله الذي أؤمن به، أي مع فرض صحة عقيدتي، فالعقل عندي أعظم نعم الله (أو نعم الطبيعة) على الإنسان، وأفضل شكر النعمة توظيفها وتفعيلها، هذا يتطلب أن يمتلك الإنسان شجاعة أن يملك عقلا حرا، وهنا فصاحب عقل حر يُعمِل عقله، ولا يوصله إعمال عقله إلى بلوغ الحقيقة، فيما يفترض أنها حقيقة عند الله، أحب إلى الله بقناعتي من متبع صدفة للحقيقة المفترضة، لا عن إعمال عقل، بل عبر اتباع أعمى لما وجده في محيطه وورثه عن آبائه.

والخوف من أن يؤدي إعمال العقل ومحاولة التحلي بعقل حر إلى إخطاء الحقيقة التي يريدنا الله أن نبلغها، مما يجعلنا مستحقين لعقابه، هو اتهام من الخائف لله ربه في عدله، من حيث لا يشعر ولا يعي.

وإذا سلمنا بكون القرآن كلام الله، أو لنقل بما أنه كلام الله حسب عقيدة المؤمنين به، فالله بتصوير القرآن لا يحب الوزن بمعيارين، وازدواجية المعيار مرفوض ومدان بحكم العقل قبل حكم القرآن، أو حكم أي كتاب إلهي أو بشري.

ويؤيده القرآن في ثلاثة نصوص: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم»، «لا تقولوا ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما تفعلون» «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون». إذن لا يعقل أن يدين القائل بهذا النص الذين يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من جهة، ويتوعد من أعاد النظر بما وجده عند آبائه ومحيطه الاجتماعي بالخلود في العذاب. فإذا ثبت عند البعض أن القرآن يعرض الله بهذه الازدواجية، فلا يلام إذا أوصله ذلك إلى القطع بأن هذا القرآن ليس كتاب الله، وأن هذا الإسلام ليس دينه. كما يفترض أن يتنزه الله عن ازدواجية المعايير بنقد العقائد نقدا لاذعا وجارحا، ويحرم نقد ما يفترض أنه دينه، بل يعاقب عليه عذابا شديدا لا يخفف وأبديا لا ينقطع.

أقول أخيرا: هل يمكن الاتفاق على مشتركات أو ما يمكن عده «كلمة سواء» تصلح كقاعدة للتصالح والتعايش؟

وهنا نطرح نصوصا (مقدسة) عند أتباع دين الأكثرية في مجتمعاتنا، تصلح كقاعدة مشتركة أو كلمة سواء، من قبيل: «إن الله يحب المقسطين» «إن الله يحب المحسنين»، «تعاونوا على البر والتقوى» (بمعنى الاستقامة والصلاح)، «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»، «خير الناس من نفع الناس»، «ينادي مناد يوم القيامة من له حق على الله فليقم فيقوم العافون عن الناس فيقال لهم ادخلوا الجنة بغير حساب»، «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها»، «لا تغتروا بصلاتهم وصيامهم فلعلهم اعتادوها فإذا تركوها استوحشوا، بل اختبروهم في صدق الحديث وأداء الأمانة».

صحيح هناك نصوص تبدو للبعض ناقضة للنصوص مارة الذكر ومثيلاتها. لكن دعونا نأخد النصوص التي تصلح كمشتركات« وتنسجم بظاهرها، ودون الحاجة إلى تأويل، مع الفطرة الإنسانية المحايدة ما قبل الأدلجة والتوجيه والإملاء.

فمثلا موقف المؤمنین من كل من الإلحاد والملحدين، فحتى لو لم يحب المؤمنون الإلحاد، عليهم أن يدركوا أن الملحدين إخوانهم في الإنسانية وإخوانهم في المواطنة، حتى لو لم يحبوا الإلحاد، ونفس الشيء يقال عن موقف اللادينيين من الدين والمتدينين، عليهم أن يدركوا أن المؤمنين بالدين والمتدينين إخوانهم في الإنسانية وإخوانهم في المواطنة، حتى لو لم يحبوا الدين أو التدين، ونضيف موقف الملحدين من المؤمنين، سواء الدينيين أو اللادينيين، عليهم أن يدركوا أن المؤمنين إخوانهم في الإنسانية وإخوانهم في المواطنة، حتى لو يحبوا الإيمان بما يعتبرونه وهما أو خرافة، طالما اعتمدوا واعتمدتم واعتمدنا المواطنة، والتزموا والتزمتم والتزمنا بقاعدتي الإنسانية والعقلانية، مع إدراككم وإدراكهم وإدراكنا بنسبيتيهما في عالم الإنسان. ونفس الشيء مما ذكر يقال عن اللاأدريين أو المغايرين في الدين أو اللادينيين أو المتحولين.

شخصيا لست حريصا على إقناع الملحد بوجود الله، وإن كنت مؤمنا به من دون أدنى شك، وكما أني لست حريصا على إقناع المسلم – على سبيل المثال – بالإيمان اللاديني، رغم قطعي بلاإلهية مصدر الدين. بل أقول: تعالوا إلى كلمة سواء.

هذا الفهم والتعاطي لو كنا قد اعتمدناهما بعد 2003، كانا سيساعداننا حتى في حل معضلاتنا في الشأن السياسي خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة. عندها لما وجدنا فينا تكفيريين، ولا وجدنا فينا طائفيين، ولعلنا ما كنا قدر مررنا بالتجربة القاسية مع الظاهرة الداعشية، ولما احتجنا إلى تمثيل للمكونات، ولا الحديث عن استحقاقات هذا أو ذاك المكون، ولا إلى المحاصصة، لأننا كنا سنكون متساوين في أهم هويتين؛ في الإنسانية وفي المواطنة.