18 ديسمبر، 2024 8:48 م

العقد الاجتماعي عند النائيني مقاربة اولية

العقد الاجتماعي عند النائيني مقاربة اولية

المقدمة
بسبب تقادم الازمان على غلق الاجتهاد الفقهي والعقدي وتداعيات عصور التراجع لاسيما بعد القرن السابع الهجري حصلت فجوات وثغرات بين (النص الديني ) وفقه الحياة المتجددة ، وظهرت التجربة الغربية المتطورة بتقليل اخطائها بالمراجعات الدائمة والمستمرة منافساً قوياً للمفاهيم الحضارية الاسلامية بحيث لم يعد المشروع الحضاري والاسلامي كافياً لإدارة المجتمعات وتحقيق الحريات وارساء ثقافة الحقوق والالتزامات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم كما لم يُعد هذا المشروع راعياً للنهضة العلمية والتقدم ، ولم يحقق تجربة تنموية شاملة ومستدامة تحقق الكفاية والاكتفاء الذاتي ، والازدهار الاقتصادي .
أن تجارب المغرب ومصر وتونس والعراق والحجاز في يومنا الراهن تبدو تجارب فقيرة وفاشلة اسقطت ثقة الناس بالقوى السياسية الاسلامية فلم تجد الشعوب غير النموذج الليبرالي خياراً للتقدم والتمتع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فانحازت اليه مضحية بتراثها لأنها ترى الحياة في اوربا افضل من الحياة في بلدان العالم الاسلامي ،ولعل من نواتج هذا التصور ان شباب المسلمين يهاجرون لاجئين لجوءا انسانيا للعيش في عالم آخر متقدم في الغرب .
لكل ما تقدم لابد من الوقوف عند هذا الواقع ولابد من مراجعة واعادة النظر في مكوناته في بلدان العالم الاسلامي واول ما يمكن مراجعته هو مدى دور الفكر الديني وخطاب الاسلاميين بالتسبب في صناعة هذا الواقع باعتبار الدين في منطقتنا يشكل العامل المؤثر تأثيراً سيكولوجيا وسيسيولوجيا في صياغة العقل المعرفي الاسلامي المعاصر .او التفتيش عن مسببات هذا الواقع في نمط الثقافة السائد وطرق التفكير ومهاراته كما يذهب اليه المصلح الشيخ محمد عبده
من هنا كانت مقاربة النائيني مهمة لحفريات تبحث عن سبب جوهري للتخلف الاجتماعي لأجيال متعددة وتخلف عصي عن الازاحة والتفكيك
لقد كانت مقاربة النائيني في تحليل هذه الافكار تدور حول ضرورة (الدولة) التي تصنع التقدم وتحقق استقامة نظام العالم ورفاه النوع البشري () الى جانب ما يجب ما تحققه من العزة والشرف والاستقلال للامة وتربية الناس على افضل المهارات العقلية والخلقية واحقاق الحقوق وتنظيم سائر القوى العاملة نحو اقتصاد عظيم المنتجات ، وما يقلل من مستويات الفقر والحاجة ويؤمن متطلبات حاضر الامم ومستقبلها ويجعلها تعتز بوطنها وتراثها وماضيها اعتزازا يسد الثغرات على السقوط في خدمة الاجنبي.
فعند النائيني يتوقف تحقيق هذه الاهداف على دولة ناجحة والدولة الناجحة تحتاج ان تقام على فلسفة وجودية نهضوية ، وقوانين تفهم العصر وتحقق تطلعات الانسان ، ولا تتعامل مع التاريخ بوصفه ((التراث المقدس)) انما بوصفه خزانة التراكم الذي على حذف مفاهيمه التي تسهم بالتخلف والتراجع وعلى تعظيم قيم النهوض والتقدم فيه تؤسس الرؤية للحاضر بعد ان تتطور من خلال التعايش النقدي مع التراث فلا تضحي به مطلقاً وتتخذ منه موقف (القطيعة) ولا تنغمر فيه ككهف يحجبها عن النور والهواء الطلق وملاحقة التغيرات الزمنية .
لذلك في تقديري طرح النائيني (قيما لعصر ديني جديد) يقدم فيها فهماً بشرياً برهانياً للدين والدولة ويفكك العقل التقليدي ويؤسس لمهارة التمييز بين النص المقدس والفهم البشري للنص ، وينقل من يقرأ رسالته تنبيه الامة وتنزيه الملة من لاهوت العصور القديمة التي هي نتاج للتراجع الحضاري الى فكر جدلي جديد ، لا يحتكر فيه رجل الدين الشأن العام ، ولا جهة او جماعة ترى نفسها مفوضة لاهوتيا بحكم المجتمع وتؤسس مقاربة النائيني قاعدة اساسية هي أن أي جهد بشري قابل للمراجعة حتى اذا كان اجتهاداً علمياً في طريق معرفة الحقيقة فالمراجعة الدورية واجب معرفي متكرر والتصحيح على اساس المنهج النقدي البرهاني ضرورة تاريخية ودينية وادان النائيني الغرض السياسي الذي يختفي خلف تفسير الدين .
وبذلك فقد فكك النائيني الخطاب الديني وفرز النص عن فهم النص وفكك العقل المغلق ، واحالنا الى عقل مفتوح على تجارب الامم نأخذ منها ما لا نرى فيه تعارضاً اساسياً مع متبنياتنا المبرهن عليها ونقد العقل النقلي ، ودعا الى عقل يدرك مقاصد الشريعة ومرامي النصوص وقدم الانسان بوصفه محور (المنفعة والمضار) واسس بنيانه على تقديم المصالح ودفع المفاسد ، على اساس ان الانسان هو المعيار .
من جهة أخرى : فتح الحوار لأجل أكتشاف الضرر الحضاري من جرّاء تصلب الجمود في الفكر الإنساني المقنّع بأقنعة دينية فكان تفكيكه للبنية العقلية المغلقة التي غلقت وحجبت عن الناس حقيقة الدين الالهي ، لقد أشار النائيني في رسالته الى ضرورة ممارسة الشك المنهجي فيما نعتقد بفهم بشرى للنصوص ثم التمييز بين النص المقدس الذي يمتد ويهيمن على كل الازمنة والاماكن والبيئات ، وبين الفهم البشري الذي لا يتجاوز مرحلته الزمنية قبل سروش وملكيان وشبستري والجابري وجورج طرابيشي
ان أخطر توجه منهجي وفكري للنائيني انه ازاح المرجعيات الوهمية التي كونت قاع التراث
ويمكن استنتاج ملحظ مهم من ثنايا فكر النائيني انه انطلق من ضرورة تغيير طريقة التفكير في الشأن الديني من مسلك الانكباب على النصوص الى مسلك تحويلها الى مصابيح لإنارة طرق بناء الحياة والانسان وفهم التاريخ بأبعاده الثلاثة كما ينبغي برهانيا ومنهجيا ، ولو امتد به الزمن وازيلت العقبات عن رسالته (النهضوية) تنبيه الامة لكانت مهمة تغيير رؤية المسلمين للعالم المعاصر اي تجديد فهم العالم والنظام العالمي مهمة ممكنة معرفيا ومنتجة حضاريا .
ولعل عدم استغراق النائيني بالمسائل الفقهية في رسالته تنبيه الامة وهو الفذ المتفرد في هذا الميدان وتركيزه على النصوص التأسيسية (القرآن/السنة/نهج البلاغة) والادلة العقلية ، يوحي بانه يريد ان يتم النظر للمستجدات من خلال استنطاق منهجي تنويري جديد للنصوص ومن خلال صناعة عقول مفتوحة على الانجاز الانساني عامة بلا قيود ، وادخال الفكر الانساني المنتج للتحضر ضمن مستوعبات المنابع الصافية ((القرآن، السنة، نهج البلاغة)) وتغيير ضوابط الفهم السائد في المرجعيات التقليدية وتأسيس فقه جديد للدولة والمجتمع بعد ان ضمر هذا الفقه ضمورا مخيبا للآمال وتم التركيز على الجزئيات والاحكام الفردية التي تخص الشخص الفرد وغابت مشكلات الامة ومتطلباتها عن ذهن الفقيه.
لذلك : حاولت الرسالة ان تصنع تاريخاً جديداً تخرج فيه من كهنوت صنعه البشر وتلقفه المقلدون اصحاب العيون المعصوبة والنفوس الضيقة التي تعجز عن استيعاب رحابة العالم ورحاب النص .
ولأني اعتقد مطمئناً ان النائيني كان فرصة نادرة من فرص التقدم واعادة البناء على اسس جديدة وان التيار التقليدي الذي كان وسيبقى الاقوى في مجتمع تردت ثقافته سينهار حينما يؤسس النائيني ثقافة نهضوية مفتوحة البصر والبصائر، والدليل على ذلك كله ان الفكر الديني في الازمنة التي تلت عصره اخترع مفهوم ولاية الامة على نفسها ، ومفهوم ولاية الانسان على نفسه ومفهوم ولاية دولة الانسان على المواطن لكن هذه الرؤى لم تقوى على كسر جدار التقليد فاتجه العقل الفقهي الى مفهوم ولاية الفقيه ، ومفهوم شورى الفقهاء
وظهرت مفاهيم شتى في الفقه الجديد للدولة فكان النائيني هو المحرك النابض لكل هذه بل الأدل على ذلك أن تجربتنا المعاصرة ((ديمقراطية ما بعد عام 2003م)) فيها من الثغرات والتجاوزات والمشكلات ما يجعل منها تجربة متدنية في مخرجاتها ، ولو كان المؤسسون غواصين في فكر النائيني جيداً لتلافينا الكثير منها .
ومن الجدير بالذكر ان تفكيك النائيني بين النص وفهم النص جاء من اجل تطوير علوم الدين وليس لإحياء علوم الدين كما فعل الغزالي عندما اوقف المسار الفلسفي الاسلامي في القرن السادس الهجري بان ختم مشروعه اللاهوتي التقليدي من تهافت الفلاسفة الى لجم العوام عن علم الكلام الى كتابه التفرقة بين الاسلام والزندقة بكتاب احياء علوم الدين ليؤسس لنمط من التدين يخضع لمتطلبات التراجع الحضاري وهذا الذي حصل
وان الفارق بين النائيني ، والتفكيكين الغربيين ان التفكيك عند الغربيين هو غاية الجهد المعرفي والحضاري ، وعند النائيني هو وسيلة لإعادة البناء فرفع الانقاض ليس هو الغاية انما هو مقدمة لبناء اخر على اسس هندسية تراعي الحاجات التي فرضها التطور الاجتماعي البشري وهو كما يعيد فهم النص ويستبدل فهما قديما دائريا بفهم متحضر جديد افقي الامتداد ينتقد الفكر البشري في معانيه المزيفة والاسطورية ولا يتنكر للنص التاسيسي , لذلك مهد النائيني لرسالة تنبيه الامه وتنزيه الملة بتقديم رؤية نقدية للتراث ، محاولاً ان لا تكون صدمة الحداثة بعد الحرب العالمية الاولى صدمة (محبطة) فحولها الى (صدمة) تؤسس لنهضة ، ولعل الآخر الغربي هو الذي أنتج سؤال (من أنا؟) من خلال مراحل ثلاث من دراساته الاستشراقية هي اولا الاحاطة بتاريخ الفكر الاسلامي ومراحله ، ونقد التراث الاسلامي من خلال المناطق الرخوة في الفهم البشري للنص وثالثا نقد العقل المعرفي الاسلامي هو الذي حفز ان يتخطى فهم التراث ويبدأ هو في نقد الثغرات الفكرية في الفهم الديني ويؤسس لمنهجية نقد العقل الاسلامي من داخل المنظومة ومن قيمها الايمانية .
لقد بدأت دراسات الغرب لتاريخ الفكر في نهاية القرن التاسع عشر ، وقد أدت دراسات تاريخ الفكر الى محاولات نقد التراث ، بمعنى نقد المعرفة التراثية من منظومة مغايرة غير متحررة من اشكاليات التاريخ والعقد التوراتية ومخلفات الصراع الديني بين المسيحية والاسلام من الفتوحات حتى حروب الغرب التي استعمرت بلدان العالم الاسلامي ، وكان نقد الموروث التراثي عندهم لا يتوقف عند (الفهم البشري للنص) انما يسعى لنقد النص ذاته ثم نقد العقل الاسلامي برمته وليس العقل التقليدي الذي ينتج المعرفة السطحية اي البنى الذهنية التراجعية التي تلغي العقلانية وضرورة ممارسة النقد والتمسك بالبرهانية …