لقد قرأ المسلمون في القرآن الكريم ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ، وقد فهموا ذلك على أنه مدح من الله تبارك وتعالى ، وتبرئة وشهادة لإمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، على أنه لم يك من المشركين ، ولم يكن في خلد أحد من العراقيين على ما أعتقد ، أن يقارب بين رفض نبي الله إبراهيم (ص) لما يعبد قومه ، بإسلوب التمرد والعصيان المدني ، الذي هو رفض الخضوع والخنوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين من ينتقدونها ظالمة ، لأنهم ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِين ) و ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) ، وإجتمعوا عليه ولم ينصروه ؟!، ولولا رحمة الله ولطفه بأمره ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ( ، لمات إبراهيم ( ص ) حينها ولم ينجز رسالته بفعل تأثير ما أوقدوه ، وإستمر ذلك الفعل الحاقد وبأساليب مختلفة ، على كل ذي عقل ومبدأ عند الأكثرية من العراقيين عادة ونهجا ؟!، وشواهد التأريخ كثيرة ، وأهل مكة أدرى بشعابها ؟!، فلا يبالغن أحد في الوصف ولا يتجاوز حدود الحقيقة أبدا ؟!، فقد شبعنا من أكاذيب ومزايدات أهل الفتنة والغدر ، والشقاق والنفاق الإجتماعي والديني ، والتبعية السياسية حد الخيانة العظمى ، وطعن الوطن والشعب بخناجر الحقد والإنتقام العرقي والطائفي والمذهبي ، ثالوث الدمار والخراب الوطني الذي ساد بعد الإحتلالين الإمريكي والإيراني سنة 2003 .
إن مصطلح ( العصيان المدني ) مما ينسب للأمريكي ( هنري دافيد ثورو) الذي كان قد إستخدمه في بحث له نشر عام 1849 ، في أعقاب رفضه دفع ضريبة مخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك ، بعنوان ( العدل قبل القانون أحيانا ) ، وقد أولى ( ثورو) الدفاع عن الأقليات قائلا : ( إن الرجل الذي يمتلك رجاحة عقل أكثر من باقي المواطنين ، يشكل بالفعل ( أغلبية الفرد الواحد) ، وهذا ما عنيته وقصدته بمقاربة ( أغلبية الفرد الواحد ) التي تقابل وتتطابق مع ( إن إبراهيم كان أمة ) مع الفارق بالقياس العقائدي الديني ، ويستمر (ثورو) بالقول ( وبعدم تشجيع هذا الرجل على العمل ، لن تمتلك الأقلية أي سلطة مادامت تتماشى مع إرادة الأغلبية ، وفي هذه الحالة ، فإنها لن تصبح حتى أقلية . ولكنها عندما تعارض بكل ما تملكه من قوة ، فسيستحيل حينئذ وقفها . وعندئذ سيصبح العصيان المدني أداة ضد ديكتاتورية الأغلبية التي تجتاح البلاد في ظل الديمقراطية على حد تعبير( توكفيل ) المفكر الشهير المعاصر لثورو ) .
فالعصيان المدني هو أحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين غير العادلة ، وقد أستخدم في حركات مقاومة سلمية عديدة موثقة ، مثل حملات غاندي من أجل العدالة الإجتماعية ، وحملاته من أجل إستقلال الهند عن بريطانيا ، وفي جنوب أفريقيا في مقاومة الفصل العنصري ، وفي حركة الحقوق المدنية الأمريكية ، وبالرغم من إشتراك العصيان المدني مع الإضراب وخصوصا الإضراب العام ، في كونهما وسيلتان تستخدمهما الجماهير للمطالبة برفع ظلم أصابها ، إلا أن الإضراب متعلق بحقوق العمال في مواجهة صاحب العمل ، الذي يمكن أن يكون هو الحكومة .
لقد تمثلت إحدى أكبر تطبيقات العصيان المدني وأوسعها نطاقا ، في لجوء المصريين إليه ضد الإحتلال البريطاني في ثورة 1919 السلمية . لأن فكرة مقاومة قانون جائر أو غير عادل ، كانت موجودة قبل القرن التاسع عشر . أما اليوم فقد إتسع هذا المفهوم ليشمل العديد من الأشخاص ، الذين يمارسون أفعالا لا يرى البعض فيها إلا نوعا من الإضرار بالممتلكات . أما البعض الآخر فيجدونها أفعالا مفيدة تهدف إلى تغيير سياسة السلطات ، إذ ليس بالضرورة على الفرد محاربة الحكومة ، لكن عليه أن لا يدعمها في أي شيء ، وأن لا يستفيد من دعمها له ، إن كان معارضا حقيقيا لها ، ولهذا تجد البعض من العراقيين الآن ، متفائلا ومندفعا إلى حد العيش في صورة وحالة ما بعد التغيير أملا وأمنية من دون فعل مؤثر علميا أو عمليا ، ولكني من الناصحين بأن تنتظروا رؤية صدق نوايا السلطات الثلاث ، لأن السياسة فن الكذب وخلط الأوراق والتلاعب بالألفاظ ، وأفضل ما قيل فيها أنها فن الممكن ، ولا أجد في تصورات ورؤى أركان العملية السياسية وأتباعها بعد الإحتلال ، إلا تحقيق مصالحهم ومنافعهم على حساب معاناة وآلام الشعب ، لأن حكومة الأحزاب الفاشلة والفاسدة ، لم ولن تفعل شيئا مهما إمتد زمن بقاؤها ، وعلى الشعب العراقي دراسة مفهوم العصيان المدني السلمي بشكل دقيق ، وإمتلاك أدوات نجاحه المتمثلة باستعداد النخبة المثقفة الواعية والمدركة لمتطلبات مقتضياته ، بالتزامن مع توفير مستلزماته تمهيدا للتغيير ، كونه أعلى مراحل الإحتجاجات الجماهيرية ، التي بدأت بالتظاهر الشعبي العفوي ، وما أفرزه من تداعيات توجب التبصير ، بالإستناد إلى نتائج مشاركتنا الفعلية المتواضعة فيها ، وأعلنا ذلك كتابة على صفحات التواصل الإجتماعي منذ سنة 2015 بعناوين مختلفة ، ومنها ( التظاهرات … بين تعدد الأطراف … وفقدان وحدة الرؤية والهدف ) ، المتضمنة بأن (( قوة عناصر حركات الإصلاح أو التغيير ، تتحدد في ثلاث نشاطات هي ( التعبئة / التنظيم / التنفيذ ) ، وتتبع الوسائل السلمية في الإصلاح ، لعدم المساس بجوهر المطلوب إصلاحه ، وذلك بالمحافظة على أصوله وعدم الخروج عليه ، على خلاف ما تكون عليه حركات التغيير ، حيث تتبع وسائل القوة والعنف ،لإستهدافها صلب المطلوب بغية تغييره جذريا ، ولما كان الحراك الشعبي والجماهيري القائم حاليا من الصنف الأول ، فإن مراحل بلوغه تبدأ وتنتهي بتحقيق المطلوب في إحدى مراحل ممارساته في ( التظاهر/ الإعتصام / العصيان المدني ) ، وحيث تعددت مصادر التعبئة إلى حد مساهمة الحكومة من حيث لا تدري ، بمد يد العون والمساعدة الفاعلة في تعبئة الشعب ضدها، فقد رأينا ظهور عفوية النشاط المضاد بخروج الآلاف من المتظاهرين ، معبرين عن سخطهم واحتجاجهم ومطالبتهم بحقوق لا ينبغي لهم المطالبة بها ، بحكم كونها من واجبات وأساسيات أعمال الحكومة ، التي يتحتم عليها العمل من أجل توفيرها ، دون السماح للمواطن بتحمل مجرد عناء التفكير بها ، ولكن تقصير الحكومة بتأمينها ، أخرج المواطن من شرنقة صبره متظاهرا … إلخ )) ، وتوالت كتاباتنا تحت عناوين ( في الإتحاد قوة … وفي الوحدة أصالة … من أجل الوطن ) محذرين من تجمع المتظاهرين بشكل متفرق ، وأن لا يسمع منهم إلا همسا ولا يحس منهم ركزا . و ( خلافات الأنا … دليل عدم الوجاهة والإستحقاق ) ، لأن من يقرأ التاريخ ، يجد العقول تنأى بأصحابها عن تحمل المسؤولية في وسط الجهالة والتخلف ، فالمسؤولية أمانة ، وهي خزي وندامة يوم القيامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ، ولا نعتقد إمكانية تحقق الشرطين في آن واحد .
إن الإصلاح والتغيير قد يتم تحقيقهما على يد الخصوم أنفسهم ، وإلا بات الموضوع بحاجة إلى الإنتقال المتصاعد في المراحل المذكورة ، المبتدئة بالتظاهر ، كونه من الفعاليات الشعبية العفوية في معظم حالاته ، الذي تنتهز الكيانات السياسية فرص قيامه لأغراض تعبوية حزبية خاصة بها ، تثير فيها عواطف الجماهير لصالحها ، فتحركها صوب تحقيق ما ينسجم ويتلائم مع أفكارها وتوجهاتها المشاركة أو المعارضة لنظام الحكم ؟!، وبما تحققه من كسب ود وتعاطف الجماهير بالإنضمام إلى صفوفها ، ومد يد العون لها بشكل منظم وقائم على أساس الرغبة والإرادة ، ولا علاقة لها بأهداف وتطلعات المتظاهرين إلا من الناحية الشكلية ؟!، وبذلك تجد إتساع المشاركة وتعدد جهات مكوناتها ذات نتائج عكسية ، لا تؤدي إلا إلى إضعاف ترابطها ومن ثم تفكك نسيج بنائها ، بسبب تعدد مصادر التوجيه ، وغياب دور المتظاهرين الحقيقيين ، بفعل عدم وجود الإنسجام في الفكر والممارسة ، وعدم إمتلاك المتظاهرين لقوة القدرة التنظيمية ذات الصلة والعلاقة بالحكومة ، ومن ثم فقدان وحدة الرؤية والسيطرة على ساحة التظاهر ، قاعدة إنطلاق الرسالة التصحيحية الأولى ، من أجل تحقيق أهدافها المرحلية ، بتطبيق إستراتيجية رؤيتها المحددة بزمان ومكان الموضوع المنشود .
لقد عشنا تفاصيل مشاركة الحزب الشيوعي والتيار الصدري في التظاهرات ، وكيف أصبحت نتائج التظاهرات ، ودعونا الى تغيير نمط تظاهرات الجمعة في ساحة التحرير ، لتكون إنطلاقتها منها إلى بعض الشوارع والأحياء القريبة والمحيطة بها ، وقد ثبت ذلك في توصيات الإجتماع المشترك لقوى الإحتجاج المنعقد بتأريخ 29/1/2016 ، ولكن العكس هو الذي حصل ؟!، فاقترحنا ( تظاهرات الأحياء والأقضية ) كبديل أكثر فاعلية من نشاط أصابه التكرار والرتابة ، بغية تغيير أساليب التحشيد الجماهيري وتوسيع دائرة الإحتجاج ، باعتبار ذلك من موجبات المرحلة ، ولغرض تشكيل قوة الضغط الشعبي المطلوب ، وقدمنا مشروع وحدة الحراك المدني الشعبي وإختيار إدارته , ولم نجد غير الصد والتشكيك والإعتراض غير المنطقي ، وعمل من عمل بالإتجاه المعاكس لتحقيق مصالح شخصية ضيقة ، واتهمنا البعض الآخر بما يتهم هو به اليوم ( مندس ) ، وسمعنا الكثير ممن لم يقدم للحراك غير اللغو والفوضى والإرتباك ، وإنتهت مرحلة التعبئة من خلال ممارسة التظاهر الجماهيري ، فنادينا إلى الإعتصام لعدم جدوى إستمرار التظاهر الجمعوي ، مؤكدين بأن الإعتصام لا يعني غلق الطرق والمدن وعدم التواصل وتوقف الحركة والعمل ، إنما هو تظاهر مستمر في أماكن محددة لغايات تنظيمية وفعاليات مستقبلية أكثر فعالية ، ولكن قصر ذات يد المتظاهرين ( المستقلين ) ماليا حالت دون ذلك ، فبدأ التيار الصدري الإعتصام رسميا بتاريخ 18/3/2016 ، وكان له الفضل في مشاركة التنسيقيات والأحزاب ، وانتهى إلى حيث تجدد التظاهرات مرة أخرى ، ودخول المتظاهرين مبنى مجلس النواب في 30/4/2016 ، الذي أدانته الرئاسات الثلاث ، بإعتباره عملية إقتحام وإعتداء على بعض أعضائه ، وخرقا دستوريا فاضحا ، يستوجب من القوات الأمنية ممارسة دورها بضبط الأمن ومنع الاعتداء على مؤسسات الدولة والعاملين فيها ، ليتحول نشاط المعتصمين إلى الإعتصام المفتوح في ساحة الإحتفالات ، المنتهي في 1/5/2016 بدون الحصول على نتائج تذكر ، لتستمر التظاهرات الجمعوية في بغداد والمحافظات ، وتزهق فيها الأرواح وتهدر الأموال ، ولم تقدم الحكومة غير الوعود الكاذبة ، وآخرها ما هو عليه الحال في تظاهرات الجنوب والوسط وبغداد من أرض العراق ، حيث لا جديد تحت الشمس المتجاوزة درجتها نصف درجة الغليان ؟!.