لعل من البديهي القول، بأن ايقاع العصرنة اليوم، بات يتسارع بشكل مذهل، طال كل جوانب الحياة المعاصرة . وبذلك فقد اخترقت العصرنة بتداعياتها المكثفة ، وبتقنياتها المتطورة، كل خصوصيات المجتمع، لتصبح جزءاً من الحياة اليومية للناس.
ولاشك ان التقنيات الرقمية، التي افرزتها العصرنة، كالشبكة العنكبوتية ، والقنوات الفضائيات ،صارت ادوات اختراق عابرة للحواجز المكانية،والقيمية، وبسرعة مذهلة. حيث انعكست عولمة الفضاء المعلوماتي والإعلامي بشكل مباشر، على ثقافة جيل مسلم اليوم، بعد أن حاصرته بأدواتياتها الفاعلة، في ثقافته، ومعرفته، وتراثه،وباشرت عملية اعادة تشكيل جديدة لرؤاه،وبشكل خرج في أغلب الأحيان، عن زمام سيطرة الاسرة،ومؤسسات المجتمع، ومراكز التربية والتعليم.
فجيل اليوم، بعدما شغله ضجيج العصرنة بآلياتها المختلفة ، أخذ يمارس عملية تقليد، ومحاكاة آلية، لكثير من السلوكيات العصرية التي افرزتها عولمة الصناعة، وثورة الاتصال،والمعلوماتية،والتي تمظهرت في سلوك هذا الجيل بشكلية زائفة ، تجسدت في نمط الملبس ، وقصة الشعر ، والهوس المفرط في استخدام الحاسوب،والهاتف النقال، وأجهزة الميديا الأخرى ، في عملية استلاب غير مألوفة، عزلته عن واقعه الاجتماعي الحقيقي، فتحول المستخدم عموماً، والمسلم بالذات، الى ما يشبه الروبوت الآلي، بعد ان اضمحلت ميوله العاطفية،وجفت ملاطفاته الاجتماعية،وتيبست احاسيسه المرهفة، وتبلدت مشاعره الوجدانية، التي سلبتها منه تلك التقنيات، بانغماسه التام في فضاءاتها ، وحرمته من استلهاماته الوجدانية.
ولذلك فقد استهوت الحياة الغربية المعاصرة شبابنا ، فأولعوا بتقليدها بشكل سطحي، لأجل التقليد، باعتبارها في وهمهم، من ضروريات المدنية، والتحضر، وذلك في عملية انبهار شديد، وتبعية مقرفة، بذريعة مماشاة العصرنة، ومسايرة المدنية، ومواكبة الحداثة، وبشكل فج، استهدف التمرد على الموروث الديني، والقيمي، ونسف الأعراف، والتقاليد، نتيجة إفلاس معنوي ، وشعور بالدونية ، وتقليد أعمى ، وعجز تام عن التشبث بأصالة الهوية.
وإذا كان لا بد لنا أن نعمل على إعادة هيكلة واقع الحال، بما يتلائم مع معايير التحديث، والعصرنة، فإن ذلك ينبغي ان يتم في إطار الحفاظ على أصالة هوية الموروث الحضاري لمجتمعنا، وأمتنا، والتكيف في نفس الوقت، مع المعطيات الإيجابية للعصرنة، وإسقاط كل ما هو سلبي من تداعياتها دون تردد.
لذلك بات الأمر يتطلب من الكتاب، والمفكرين، والدعاة، والمؤسسات المهتمة بالشأن الديني، والاجتماعي، الإنتباه الجدي، إلى خطورة الانفصام بين الأجيال القادمة، والبيئة التي انجبتهم، والعمل على إدامة زخم التواصل الحقيقي المستمر بينهم، وبينها، وزيادة حس الإرتباط بالأصالة، وتعميق جذور الإنتماء، في نفس الوقت الذي ينبغي أن يتم فيه الانفتاح على معطيات العصرنة المعرفية، والتفاعل مع توجهاتها الإيجابية بتروي، ومن دون تهيب، او خنوع، أو استكانة ، ترسخ في أوساط الجيل المعاصر، روح الإنهزامية، وتشيع فيهم الشعور بالدونية، عند تعاطيهم مع تيار الحداثة الجارف، تفادياً للضياع،والاستلاب.