أولاً أركز الانتباه إلى نقطتين:
· الأولى أن قناة العراقية الفضائية أنتجت (كمـّاً) كبيراً من المسلسلات الدرامية خلال العامين الماضيين.
· الثانية أن اشتغال مجموعة كبيرة من الفنانين في هذه المسلسلات يزيدها خبرة وتجربة .
السؤال هنا: هل كانت نتائج العمل بهذه المسلسلات قد امتلكت قدراً من التجارب الفنية المحيطة بالدراما التلفزيونية العراقية كي تتحول تلك (التجارب الكمية) المتراكمة إلى الانسياب لخلق تيار( التجارب النوعية)..؟
ربما احتاج إلى تحليل أنموذج مسلسل في أعماق الأزقة (باب الشيخ) و(المدينة) للجواب على هذا السؤال. هذا الأنموذج من صنع أثنين من جيل فني جديد يحمل شيئا كبيراً من الموهبة هما كاتب السيناريو باسل الشبيب والمخرج أيمن ناصر الدين، لكنهما في المسلسلين لم يكونا موفقين في نقطتين رئيسيتين هما:
أولاً: أنهما لم يستطيعا إدخال الوسائل الفنية الحديثة القادرة على تخليص مواضيع المسلسلات من البقاء على السطح وعدم التعمق في ارتباط (الحالة الدرامية) من ألفاظ، وتعابير، ومواقف، وعواطف، وصور، بـ(الحالة السياسية) . ظلا غير قادرين على التحرر من الجمود الفني والتمسك بكلاسيكية الفن السينمائي.
ثانياً: أنهما حشدا أفكاراً ومشاهدَ وصراعاتٍ تكررتْ ثلاثين مرة في كل من المسلسلين برغبة المخرج أو المؤلف – لا ادري – لجعل الممثلين جماعة إنسانية تتميز بـ(الغضب) و(القلق) و( الحزن) . جماعة منعكفة على (الذات) لا علاقة لها بالعالم وما يجري فيه ولا بالأحزاب الوطنية ونضالها السري والعلني ضد الفاشية العراقية في أيام الرئيس صدام حسين. صار من الصعب على المشاهدين استيعاب عمق ( الزمن) المتحرك في ممرات ضيقة من( المكان).
ظهرت شخصيات المسلسل، جميعاً ، أنهم يعيشون في اضطراب وألم في كل مشاهد وتقاطيع المسلسل . ربما أراد المؤلف والمخرج أن يدوّنا في جزئيه عملاً وثائقياً عن الوضع الاجتماعي، والنفسي، والسياسي، في عراق تلك المرحلة الغاشمة وإدانة الجلادين بموهبة انطباعية كبيرة أظهرت أمام عيون المشاهدين دراما سيكولوجية مذهلة قدمها صف من الممثلين العراقيين ذوي الوزن التمثيلي المتميز بالمعرفة والرقي والتجسيد المتكامل في مقدمتهم: آلاء حسين ، عواطف نعيم، محمد هاشم، عبد الجبار الشرقاوي، آسيا كمال، سنان العزاوي، أسيل عادل، سعد مجيد، بتول عزيز، جبار المشهداني، أحمد شرجي، أياد حامد ، جمال الشاطي، بتول كاظم، سوسن شكري ، رضا طارش وعدد آخر من الممثلين الشباب من ذوي المواهب الواعدة . هؤلاء جميعا كانوا أداة دقيقة متنوعة لرسم شخصيات المسلسل من (الجلادين) و(الضحايا) في زمانٍ خلا من إحساس السلطة الحاكمة بأية مشاعر إنسانية رسمها ، بدقة، كاتب السيناريو والمخرج . هذا نبل منهما لكنه ظل نبلاً رومانسياً بسبب ضعف الجوانب التكنيكية معتمدين على (المزاج الخاص ) في عملية الإخراج، الذي غالبا ما يتعذر نقله من مستوى الكلاسيكية والبدائية إلى مستوى فني متجدد مقبول . الموضوعات المطروحة في الجزأين من المسلسل كانت جادة وجريئة لكشف السلطة اليمينية التوليتارية، لكنها لم تخلو في اغلب مشاهدها من تشوش كامل، باعتمادها على (الصراخ) و(النواح) و(البكاء) وغيرها من الحركات الفسيولوجية كالتقيؤ ،والإغماء، ونزف الدماء، من قبل المعتقلين وأهاليهم من سكان (باب الشيخ) و(المدينة) وتكرار ذلك بصور الزوم والمؤثرات الفنية المتنوعة الأخرى ، بهدف انتزاع عطف المشاهدين وهو أمر لا يخلو من المجازفة الفنية، خاصة إذا ما عرفنا أن نهاية المسلسل حملت صورة غير واقعية باختلاق دور (رسالة) كتبها احدهم إلى الزعيم عبد الكريم قاسم و(تلفيق) دور جديد لقيادي في جهاز امني برتبة عالية (عميد أو عقيد) وتحوّله إلى ( مناضل..!) يسعى إلى إطلاق سراح المعتقلين والى كسب محبة واحترام الجماهير في الأزقة الشعبية.. ثم ظهور نهاية الجلاد القاتل سنان العزاوي (العقيد شاهين مساعد ناظم كزار) مجنونا داخل مصحة حكومية يلقى الرعاية وقد تجاوز فيها السيناريو ضرورة محاكمته بعد أن كان يظن نفسه في النظام القمعي باعتباره الغالي الوحيد في هذه الدنيا.
لا ادري هل استند السيناريست على فحوى (الوثائقية) في تناول (سيرة ذاتية) لأحد رجال الأمن من الجلادين..؟ من المؤكد أن السيرة الذاتية الشخصية لا يصنعها خيال السيناريست، بل تخلقها الوثائق والوقائع والسجلات. أما الاعتماد على (المونتاج) حسب صانع السيناريو فلا يمكن أن توصل الشيء الحقيقي إلى أذهان المشاهدين، الذين كانوا قد شاهدوا خلال الحلقات كلها الانحطاط الروحي والأخلاقي في كل سلوكيات (الجلاد شاهين) وأفعاله وهو الذي كان يحب الدكتاتور المتسلط (ناظم كزار) مثل حب المؤمن المتدين لرب السموات والأرض.
حسناً فعل السيناريست بإظهار مشاهد الموت والتعذيب على أيدي الجلادين وكشفها أمام العالم . كان بإمكانه تجسيد أصالة تلك المشاهد بالتعبير الفعلي عن تجارب سياسية لشخصيات ذات أسماء معروفة واجهتْ الموت في التعذيب داخل المعتقلات البعثية، خاصة في معتقل (قصر النهاية) لتصبح فعليا نماذج متفجرة بالقوة والحيوية الفنية في عيون المشاهدين ، لكن السيناريو اعتمد على أسلوب تكرار وإعادة وسائل التعذيب ليجعل أصداءها مترددة عند الجالسين أمام الشاشة الصغيرة . كما أن المسلسل بكل مشاهده كان عاجزا عن عرض (أسباب) و(دوافع) هذه المعضلة السلطوية الغاشمة، لذلك فقد ظل تكرار مشاهد العدوان البوليسي والتعذيب أمرا ضعيفاً عاجزاً عن إقناع المشاهدين بوسائل الفاشية الجديدة للمحافظة على (السلطة) إلى الأبد، وفق قاعدة (جئنا إلى الحكم لنبقى) من دون التعرية الحقيقية للأسس التي قام عليها نظام صدام حسين وممارسة (إرهاب الدولة) بأبشع الصور .
أجيب في البداية أن اغلب الإنتاج الدرامي العراقي لا يصيب الهدف الواقعي بتحويل ضوء المسلسل التلفزيوني إلى مرتبة (الحقيقة) في عيون المشاهدين بصورة العرض التجريدي . لقد تنوعت أنواع الإرهاب في العراق بين( إرهاب الدولة) في العهد البائد، و(الإرهاب الفردي) حيث نرى ، اليوم، مظاهر إرهابية جديدة في ظل الظروف الحالية ( فردية وجماعية ) يمارسها متطرفون متدينون بتفخيخ السيارات وتفجيرها بوسائل تدميرية أخرى تحقق القتل الجماعي للناس المدنيين المسالمين. هؤلاء يحملون في أعماقهم غريزة قتل الناس واختطافهم وتعذيبهم خارج إطار الدولة لكن بقيادة حثيثة من (تنظيم القاعدة) الإرهابي العالمي بنوازع منبثقة من قيم وحشية .
لم تكن أصول الدراما العراقية وقواعدها غائبة عن تخطيط الكادر الفني العراقي الطامح لتقديم مسلسلات درامية سياسية بمستوى فني عال، لا أشك بذلك . لكن ، مع الأسف، لم يجر الالتفات إلى المعارف السينمائية المتجددة، التي وصلت في بعض الإنتاج العالمي إلى مستوى الانجاز الحقيقي في فن الإبداع السينمائي، بينما ما زال إنتاجنا العراقي غير قادر ،حتى الآن، على التمييز بين الجيد والرديء من السيناريو والإخراج والتصوير، رغم وجود كمًٍ هائل من الكفاءة العراقية، خاصة من المخرجين والممثلين. لم نكتشف، بعدُ، الطريق الصحيح في إنتاج الدراما الإبداعية، التلفزيونية والسينمائية، ولم يستطع المنتجون في عدد من القنوات الفضائية خاصة (قناة العراقية) من التخلص من صور العمل العجول ،غير المخطط، غير المدروس، غير الواعي فنياً، غير المطلع على حداثة الفنون السينمائية العالمية وما وصلت إليه، بل أنها لم تستوعب حتى تفصيلات التقدم في جزء هام من الحركة التلفزيونية المصرية الجديدة والقديمة وعوامل تفوقها . لقد ظلت روابط الفنانين التلفزيونيين العراقيين غير قادرة على النهوض بالفن التلفزيوني العراقي. ها هي تحمل تناقضات داخلية تسيء إلى البناء الدرامي إذ جاءت نهاية قصة مسلسل (أعماق الأزقة) بدون موهبة درامية، لم تخلو من نقاط ضعف بارزة.
لقد ظلت مجموعات الفنانين العراقيين في أغلب الإنتاج العراقي غير قادرة على بلوغ مستوى ثقافي عرض في شهر رمضان الماضي والوصول إلى نصف مستوى ما كان عليه مسلسل العرّاف مثلاً. كان مسلسل (العرّاف) الذي قدّمه الكاتب يوسف المعاطي والمخرج رامي إمام والممثل عادل إمام نموذجا متطوراً في تقديم الصدمة الدرامية بأسلوب القناعة والجدية والسخرية . لقد بلغ مسلسل (العرّاف) قمة الفن التلفزيوني – بنظري – فاضحاً البورجوازية المصرية الجديدة بتهكم شعبي – رومانسي – متنوع إذ كان يسعى في كل مشهد من مشاهده وراء تحرير المشاهدين من الارستقراطية الدنيوية والدينية وإدانة أساليبها في الفساد المالي والتزييف.
كانت مجموعة مسلسل (أعماق الأزقة) تكتفي بــ(الشكل الفني) من دون (المضمون) وهي مزية ظلت أسيرة تجارب محدودة لزمن غير قصير لا تخلو من عيوب كثيرة ، حيث يشيع استخدام صور المشاهد المستهلكة التي لا يكون فيها رد فعل ، سياسي وإنساني، في أحاسيس المشاهدين. مثلاً كان منتجو مسلسل (أعماق الأزقة) قد اعتمدوا على أساليب (وصف الأشياء) أي وصف (القهر والتعذيب ) الذي مارسته أجهزة النظام السابق بلغة عاطفية بحتة، وبمشاهد تلفزيونية تتميز بانتقائية، تكشف عن كونها تتعلق بمرض سيكولوجي لضابط الأمن المدعو (شاهين) كأنما ليست موغلة بنظام سياسي معين هو نظام صدام حسين، بينما غاب (جوهر الأشياء) عن السيناريست والمخرج اللذين لم يقدما غير قدرة فنية محدودة وعلامات ثقافة سينمائية محدودة كشفت عن ضيق المجال الفكري في أرجاء السيناريو كافة.
من الضروري التذكير، أيضا، انه من الصعب أن يقال ، في الأدب والفن، أن المنتج الفلاني كان متكاملا بلا نقص أو عيب . هذا ما يعرفه الفنان الحقيقي الصبور في عمله أكثر من الفنان المعتد بنفسه. انه السيناريست القادر على ترقية ذاته الإبداعية. كما انه المخرج الذي هدفه الأول هو تحسين التنظيم الفني كله بهدف تطوير نص السيناريو لإقناع المشاهدين من خلال البناء الدرامي المحكم بأن أخلاق الدكتاتوريين منحطة إلى أبعد مستوى الانحطاط حينما ينظرون إلى الجماهير الشعبية باعتبارها ساذجة، وجاهلة، وخانعة، وكسولة، كما قال هتلر في كتابه (كفاحي). كان من الضروري أن يدرك فنانو هذا المسلسل أن تكرار الموضوعات اليومية المألوفة في مسلسل تلفزيوني لا يكفي للخلق الإبداعي السينمائي والتلفزيوني. كما أن استعارة الصور القمعية من سراديب التعذيب في الأجهزة الأمنية لا يكفي وجودها وحده في المسلسل كي تكون قادرة على تنمية رؤى المشاهدين في إضفاء نبرة احتجاجية أصيلة تزيد من وعيهم لإدانة ثنائية العقل والحس الفاشستي الذي ساد العراق خلال 35 عاما.
مع الأسف أن مسلسل (أعماق الأزقة) لم يكشف للمشاهدين حقيقة الأفكار الفاشية لنظام صدام حسين التي مارسها مدير أمن منطقتي باب الشيخ ومدينة الثورة (العقيد شاهين). كما لم يكشف حقيقة (الاستبداد) الفردي والجماعي، الذي يمارسه (نظام الحزب الواحد) خصوصا أن نهاية المسلسل كانت كاريكاتيرية ، لم تكن مستندة إلى قيمة فكرية أو إلى انتصار الإرادة الشعبية . بمعنى أن نهاية هذا المسلسل لم تستطع أن تطرح أسئلة بين صفوف الجيل الجديد ولم تثر جدلاً بين المشاهدين من ضحايا الإرهاب المنتشر في شوارع العراق كافة في السنوات العشر الأخيرة .
إن مسحة الأبطال، المختلقة والمصطنعة، ليست مزية تضيف إلى العمل علامة ايجابية، بل يمكن في بعض الأحيان أن تكون علامة سلبية تدل على بساطة القائمين على إنتاج المسلسل وقلة خبرتهم الفنية حيث لم تدرك أن المشاهد المطولة أو المكررة ليست من عناصر التشويق الفني ولا تؤثر أو تخاطب منطق المشاهد ووعيه. ثمة إمكانية أن يكون مسلسل باب الشيخ أو المدينة مجرد خماسية تلفزيونية ( 5 حلقات) بنهاية مفتوحة وليس 30 حلقة طافحة بالتكرار وبالنهاية الملفقة، من دون التكيف مع جوهر القضية أي البحث في جوهر التنويعات الفاشية البعثية في التحكم بـ(سلطة الدولة) ومتوازياتها، الظاهرة والخفية .
ليس هناك من وطني عراقي يعارض تقديم الإدانة للسفلة الفاشست في دولة صدام حسين الدموية ، الذين هم موضوع مسلسل (أعماق الأزقة) لكن بشرط أن تكون دراسة وعرض شخصياتها قائمة على البحث الاجتماعي والسيكولوجي. كما فعل رامي إمام بمسلسل (العرّاف) في كشف حقيقة أن الراكضين وراء جمع الأموال يعانون من هوس (سلطة رأس المال) ليتحكموا بكل السلطات الاجتماعية الأخرى .
صحيح أن مسلسل ( أعماق الأزقة) كان إدانة اجتماعية فنية للأخلاق السافلة لكن لم نجد الكيفية القادرة على زيادة وعي الناس والمشاهدين للأخلاق النبيلة التي تميز بها أبطال المسلسل من ضحايا الدكتاتورية .
كان البطل فؤاد إنسانا شهما وشريفا لكن لم نفهم لماذا صار شهما وشريفا رغم انه شقيق الذي كان نذلا وحقيراً. من منهما كان قد استوعب شهامته أو نذالته من فترة الطفولة..؟ لماذا نزل الشقيق الأكبر إلى أسفل المجتمع بينما الشقيق الأصغر ارتقى إلى أعلى أفضليات المجتمع..؟ لم يقدم السيناريو جوابا .
صحيح أن المسلسل كان يحمل مضمونا فكريا معينا لكن هل جاء المؤلف بهذا الإلهام الفكري من التعاشر مع الناس في باب الشيخ فعلا..؟ فقد ظل التعاشر بين أناس زقاق واحد، بين مجموعة محدودة من الناس، بمعنى أنها حدود ناقصة الثقافة غير مرتبطة بالكل الاجتماعي، العمالي والفلاحي والطلابي وبقية علاقات الناس في الأحياء البغدادية الأخرى و المدن الأخرى مع الدولة العراقية ذات المؤسسات البوليسية القمعية. لم يكن هناك في المسلسل علاقات طبقية وليس هناك طبقات ثورية.. هل أراد المؤلف والمخرج أن يؤرشفا سينمائيا أو تلفزيونيا تاريخ محلة معينة هي (باب الشيخ) أو تاريخ مدينة واحدة هي (الثورة) خلال فترة زمنية محددة. بالتأكيد أنهما أرادا ذلك فعلا.
لكن أرشفة التاريخ ونقله فنيا (سينمائياً أو تلفزيونياً أو روائياً) هو بالتحديد نوع من المعرفة أو هو نوع من تذكير المشاهدين بأحداث وقعت في الماضي إلى الجيل الجديد أو إلى الأجيال القادمة، خاصة في الظروف الإرهابية الجديدة المعاشة برعب شديد في بلادنا بعد سقوط الدكتاتور . هذا من أنبل النوايا والأهداف التي أرادها مسلسل أعماق الأزقة ، لكنه انتهى قاصراً بدون نضوج واع ، مع الأسف.
ترى هل استطاع كاتب السيناريو أن يثير نقاشا وجدلا بين الناس المشاهدين..؟ ليس هناك بيّنة حقيقية عن وجود هذا النقاش أو الجدل رغم اعتقادي الجازم بوجوده بحدود معينة ربما في أوساط جيلنا نحن ضحايا تسلط حزب البعث عام 1963 أو خلال الفترة 1968 – 2013 . كانت أجيال تلك الأزمنة المظلمة قد عانت وقائع قاهرة وظالمة استطاع المسلسل أن يعيدها إلى ذاكرة الذين عاشوا في زمان سطوة الرئيس صدام حسين. أما الأجيال الشابة الجديدة فأنها تنظر إلى حكايات تلك الحقبة الدكتاتورية بأنها غريبة وربما يجري استيعابها كأساطير خارج أنماط حياة واقعية يصعب إدراك أسبابها وكنهها وربما بعضهم يعتبرها قد جرت في فترة انبثقت في التاريخ السياسي العراقي بطريق الصدفة التي انتهت في 9 نيسان 2003 وقد يعود السبب أن ما كتب وأنتج فنيا ،،سينمائياً وتلفزيونياً، لم يحمل محاولات جادة وعميقة لاستخلاص تجارب الماضي ومدى تأثيرها على الوضع الإرهابي الحالي حيث عصابات (داعش) و(الميليشيا) وسطوة أفعالها على سيكولوجيا المستقبل. النموذج هنا هو مسلسل أعماق الأزقة الذي تحركت أحداثه في (فضاء محدود) كان المفترض أن يكون انعكاساً لنظام سياسي دكتاتوري تميز خلال 35 عاما ليس فقط بالقمع البوليسي بل بالكساد الاقتصادي في بلد غني بالثروة النفطية، تميز بوجود البطالة الشاملة والبطالة المقنعة، تميز بتضخم مالي ليس له مثيل من قبل، تميز بتفسخ المجتمع وبالانحطاط الأخلاقي، تميز بالصراع الطبقي الحاد وبالعدوان على حقوق الشعب الكردي عدواناً وحشياً. المفترض أن أي فلم سينمائي أو أي مسلسل تلفزيوني يتناول نمط الحاكم وأسلوب الحكام في ظل سيطرة صدام حسين وناظم كزار وحسين كامل وغيرهم من المجرمين الحاكمين ، أن يقدم للمشاهد وللتسجيل التاريخي الدرامي ، ما يكشف للأجيال اللاحقة الخلاصة الوافية لتسلط عناصر (الشر) الذي اعتمده هذا النظام وفي التلاعب بعقول الناس لكي يسلب مواقفها اللاواعية سواء في العراق أو في بلدان عربية عديدة.
كانت علاقة نظام صدام حسين بالجماهير هي (علاقة حب سادية) تماما ، مثل علاقة هتلر مع أبناء الشعب الألماني التي كشفتها عشرات الأفلام الألمانية والأمريكية والفرنسية والروسية، التي ارتكزت على التحليل النفسي وعلى التكوين الساحر لشخصية هتلر، بينما لم يكن لا مؤلف ولا مخرج مسلسل أعماق الأزقة لا في الجزء الأول (باب الشيخ) ولا في الجزء الثاني (المدينة) أن يتعمق في فهم شخصية الجلاد ، الموظف في مديرية الأمن التي تنفذ سيكولوجية القائد سواء كان ناظم كزار او صدام حسين .
نهاية المسلسل كانت مقحمة إقحاماً فاشلاً وموضوعها بالغ التكلف اللاواقعي، مما جعل المسلسل بلا حكمة تسترعي انتباه المشاهدين الذين انهالت عليهم طيلة 60 حلقة تلفزيونية ذات طبيعة مرعبة بمزاج جنائزي وبلا عمق فني وبصفات كالحة مصحوبة بلغة غير موفقة لكشف حقيقة الوادي المظلم الذي عاشه العراقيون طيلة 35 عاما وظلت آثاره تمشي مشيا وئيدا في زماننا الحالي.
من الصعب عليّ أن أقول أن على الفنانين ، الممثلين خصوصا، أن يكونوا ملمين ليس بتفاصيل السيناريو فقط ، بل بتفاصيل حركة التاريخ السياسي وبتفاصيل انحطاط السلطة الدكتاتورية لكي يكون العمل متكاملاً وواعياً . لا شك أن موهبة السيناريست والمخرج هي المسئولة عن هذا الإلمام فالتاريخ السياسي ووثائقه ومصداقيته يجب أن تكون في لحم ودم الممثلين وفي الإنتاج الفني كله. ليس المهم أن يرسما ملابس الممثلة أسيا كمال أو جدرية الباقلاء التي تبيعها عواطف نعيم أو كيف يحمل سنان العزاوي مسدسه وكيف يتكلم عبد الجبار الشرقاوي فكل الممثلين المشاركين بالمسلسل يملكون مواهب كبرى بفن التمثيل، بل أن جهود الممثل أمام الكاميرا مهمتها استدراج المشاهد إلى الإحاطة بكل ما يتعلق بمرحلة تاريخية محددة هي مرحلة الحكم الدكتاتوري التي تناول المسلسل بعض صفاتها أو إحدى صفاتها.
أعتقد أنه كان ينبغي على المشاركين في المسلسل ليس عرض انفعالات الممثلين على الشاشة، بل مساعدة المشاهد في زيادة قدرته ووعيه على تجسيد مخاطر حكم (الحزب الواحد ) وعسكرة المجتمع واضطهاد أبنائه بالقمع البوليسي وبالسجون للبقاء على عرش السلطة إلى الأبد كما كان الدكتاتور صدام حسين يحلم في أعماق ذاته.