يعرف عن العراقيين حنكتهم وفكاهتهم وتعليقاتهم السياسية الساخرة، وهم يتباهون كونهم”مفتحين باللبن” ولا تفوتهم شاردة او واردة، إلا وعلقوا عليها. إذ انهم من اكتوى بنارالسياسيين المتنفذين والفساد الذي يزكم انوفهم منذ ست عشرة سنة، وهم يفهمون جيدا، انه كلما اراد مسؤول في الدولة تسويف قضية ما وطمس معالمها ورميها في سلة المهملات، فإنه يقوم بتشكيل لجنة خاصة بها. فما بال العراقيين اليوم، وقد شكل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي “المجلس الاعلى لمكافحة الفساد”، واصدرمن اجله امرديواني رقم 70 بتاريخ 31 كانون الاول (ديسمبر) 2018 ورصد الاموال له.
لقد جاء تشكيل المجلس الاعلى لمكافحة الفساد، بعد ان سئم المواطن من الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 وانعدمت الثقة بينه وبين المسؤولين في الدولة ولم يتلق غير الوعود الفارغة. الحكومة التي لم تقدم له خبزا يسد به رمقه ولا وقودا يتدفء به او كساء يغطيه ويقيه برودة الشتاء ولا كهرباء تخفف عنه حرارة الصيف اللاهب ولا دواء يشفيه ولا مستشفيات تعالجه ولا مدارس مناسبة لاطفاله.
لا اعتقد ان المواطن العراقي سوف يفرح وتنفرج اساريره ولن يتوهم بان المجلس الجديد سيكافح الفساد ويعاقب المفسدين، لان في العراق “هيأة النزاهة” التي تشكلت بموجب الامر المرقم الصادر عن مجلس الحكم في عام 2004، و”ديوان الرقابة المالية الاتحادي” الذي تأسس في عام 2011 حسب الامر المرقم 31 ويرتبط بمجلس النواب، و”مكاتب المفتشين العموميين” التي اسسستها سلطة الائتلاف تحت رقم 57 لسنة 2004، وكلها تكلف خزينة الدولة اموالا طائلة دون ان تقدم شيئا في مكافحة الفساد.
ألم يكن من الاهمية بمكان ان يتم دعم هذه الهيئات والتشكيلات وان تمنح الصلاحيات والاستقلالية الكافية لممارسة عملها في كشف الفساد وتحويل الملفات الى القضاء والمحاكم لمعاقبة المفسدين، بدلا عن تأسيس مجلس جديد ليكون بديلا او بمثابة الغاء هيأة النزاهة وديوان الرقابة ومكاتب المفتشين؟
ان تشكيل المجلس الاعلى وضم هيئات مستقلة تحت يافطته، يعتبر تدخلا في شؤون هيأة النزاهة، باعتبارها كيانا مستقلا، يرتبط بالسلطة التشريعية وتحديدا بمجلس النواب، ولا يحق لرئيس الوزراء الاشراف على عملها او درجها ضمن خانة المجلس الاعلى، كون ان رئيس الوزراء يمثل السلطة التنفيذية، وعلى العراق ان يسير باتجاه فصل السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ان التجربة العراقية الفاشلة في مكافحة الفساد، تذكرني بتجربة سنغافورة الناجحة. يكتب رئيس وزراء سنغافورة الاسبق (لي كون يو)، الذي قضى ثلاثين عاما من حكمه في محاربة الفساد وتعزيز الاقتصاد وفتح ابواب الاستثمارات وتحسين المستوى المعيشي للشعب، في مذكراته (من العالم الثالث الى الاول) عن قصة سنغافورة في الازدهار وطريقتها في مكافحة الفساد الذي بدأ من قمة هرم الدولة الى اسفله، واصبحت الدولة الاقل فسادا باحتلالها المرتبة الرابعة في العالم. التجربة التي بدأت في عام 1975 عندما ادانت احدى محاكم سنغافورة وزير البيئة لقيامه، هو وعائلته، برحلة مجانية الى اندونيسيا، على حساب رجل اعمال. واصدرت حكما عليه بالسجن لاربع سنوات وصادرت ممتلكاته، التي كسبها عن طريق الثراء غير المشروع.
ان العراق لا يحتاج الى مجلس جديد، بقدر حاجته الى حملة لكشف الفاسدين ومقاضاتهم والى ارادة قوية وصارمة وقرارات شجاعة ومحاكمات جادة وعادلة لحيتان الفساد وكبار المسؤولين المتهمين بالسرقات والاستيلاء على ممتلكات الآخرين والاثراء على حساب المال العام، والى خطوات عملية لمكافحة الفساد المستشري في مفاصل الدولة، إذ ان في هيأة النزاهة 13 الف ملف فساد ينتظرالاجراءات اللازمة.
ان العراقيين لا ينتظرون من المجلس الاعلى لمكافحة الفساد اطلاق الشعارات الطنانة ولا الوعود الجوفاء ولا ان يكون حلقة زائدة ورقما جديدا مضافا الى ما تم تشكيله خلال السنوات الست عشرة الماضية من هيئات مشابهة، ولا ان يتحول الامر الديواني رقم 70 الى جعجعة بلا طحين.