23 ديسمبر، 2024 1:23 ص

العراق وغياب الدولة الوطنية

العراق وغياب الدولة الوطنية

عانى العراق طيلة تاريخه المعاصر من الثورات والانقلابات العسكرية, الا ان الدولة العراقية ومؤسساتها والبنية التحتية ظلت قائمة ومتماسكة ولم تتأثر بالتغيرات بشكل كبير حتى عام ٢٠٠٣,إلا أن الغزو والاحتلال الأميركي واسقاط النظام ادى الى انهيار الدولة العراقية, حيث ادى التدمير المبرمج لمؤسسات الدولة من قبل الاحتلال وكان أساسها حل كافة صمامات الضبط الاجتماعي المتمثلة بالجيش والشرطة ومؤسساتها القانونية والدستورية,مما يؤكد بان إسقاط الدولة العراقية لم يكن من المضاعفات الجانبية لإسقاط النظام الديكتاتوري الشمولي, بل كانت العملية مدروسة بعناية , لأن فكرة الدولة المدنية التي بشر بها الاحتلال لا تستقيم مع بعث الهويات الطائفية والاثنية التي نص عليها دستور بريمر.

فضلا عن دور الدول الاقليمية( ايران والسعودية وتركيا) واسرائيل على رأس القائمة عبر ادواتها المحلية(الاحزاب الكردية) ساهمت بشكل او آخر في إفشال مشروع بناء الدولة المدنية, بل ساهمت في إضعاف الدولة ومحاولة تفتيتها على اساس طائفي وعرقي لمصالح اقتصادية وسياسية, كل هذه الدول شريكة في عدم استقرار العراق وعامل محفز لفئاته الاجتماعية للتناحر فيما بينها , لقد كان التدخل الخارجي تأثير بالغ في عرقلة البناء لاسيما في ظل وجود قوى سياسية طائفية تشدهم مشاعر الانشداد لولاءات خارجية وليست وطنية.

كما وان مسؤولية بناء الدولة لم تقتصر فقط على عاتق الاحتلال والقوى الإقليمية بل تتحمل المسؤولية الاولى احزاب السلطة التي هيمنت على الحكم بدون مشروع وطني تتجاوز من خلاله الازمات السياسية والاقتصادية والامنية,ومع فشلها طيلة ١٧ عاما, لا زالت متمسكة بالسلطة وتواصل ما دأبت عليه طيلة السنوات السابقة لناحية عدم تخليها عن حصصها ومصالحها الحزبية في نظام تحميه الولايات المتحدة وترتجف هلعا له بعض الدول الاقليمية, حيث اصبحت مسالة المحاصصة الطائفية والاثنية عرفا سياسيا ودستوريا, ان التحدي الاكبر الذي يواجهه العراقيين في الوقت الراهن بشأن موضوع الدولة لا يتمثل في عملية بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها فحسب ولكن في إعادة تأسيس مفهوم الدولة في وحدتهم وثقافتهم السياسية بحيث يكون الاستقطاب على أساس الولاء الوطني بغض النظر عن الانتماء القبلي او العشائري او الطائفي.

من هنا جاءت انتفاضة تشرين الأول الماضي ضد أحزاب السلطة لفشلها في بناء الدولة ومحاسبة الفاسدين وتحسين الخدمات وغيرها من المطالب, لم تدرك احزاب السلطة ان أحد مقومات بناء الدولة هو الجانب الاقتصادي, فقد ظل العراق باعتماد النفط المصدر الوحيد للاقتصاد وهذا ما جعل الاقتصاد العراقي مرتبط عالميا باقتصاد الدول الراسمالية وتابع لها من خلال قدرة تلك الدول من التحكم بهذا الاقتصاد والعمل على تعطيل الصناعة والزراعة في القطاعين العام والخاص وتحويل البلد الى مستهلك واغراقه بالبضائع والسلع المنتجة لشركات تلك الدول, وبما أن الاقتصاد مرتبط بالسياسة وأحزاب السلطة الحاكمة المرتبطة بدول الجوار الجغرافي التى من مصلحتها بقاء الاقتصاد العراقي مشلول وغير منتج, والتي تسعى من خلال أحزاب السلطة التحكم بنظامه السياسي من خلال التدخل بمجمل القرارات والتشريعات المهمة قانون الاحزاب وقانون المفوضية والانتخابات لأجل بقاء تلك الاحزاب والكتل الطائفية المرتبطة بأجندات خارجية وتهميش القوى الوطنية الداعية إلى اقامة مشروع دولة المواطنة.

كما وان اعادة بناء الدولة يتطلب الاستقرار الأمني العنصر الذي على اساسه تتحقق الاسس الاخرى كعنصر الاستقرار السياسي وتفعيل المشاركة السياسية الاان فشل الاحزاب السياسية وسوء ادارتها للسلطة هو السبب الرئيسي في ديمومة الارهاب وانتشار الفساد بسبب دعمها لبعض الفصائل المسلحة التي تنتهك القانون وتتجاوز على المال العام وايضا على سلطة الحكومة والقانون , مما تسبب بعدم الاستقرار الأمني والسياسي للعراق, كما لعب الإعلام الطائفي المؤدلج من قبل أحزاب السلطة والدول الاقليمية التابعة لها دورا كبيرا في التصدي لبناء الدولة من خلال محاولة تزييف وعي المواطنين وتشويه مفهوم اعادة بناء الدولة من خلال المنابر الاعلامية من اجل جعل مفهوم الدولة من المفاهيم الدخيلة على الإسلام ومن المحرمات.

لن يستطيع العراق الخروج من تركة الاحتلال الا بالغاء المحاصصة الطائفية وطرح مشروع المصالحة الوطنية واعادة الاعتبار للهوية الوطنية,وقيام حكومة انتقالية تشارك فيها مختلف القوى الوطنية وتشمل جميع مكونات النسيج العراقي وتمكين مؤسسات المجتمع المدني ومختلف التيارات الفكرية من المساهمة في بناء العراق والإعلان عن دستور جديد يعيد الاعتبار للهوية الوطنية وينأى عن مشاريع التقسيم والتفتيت.