النظام الإيراني لا يتدخل بشؤون العراق فحسب، لا ينهب ثرواته فحسب، لا يصدر إليه الفوضى والعنف والإرهاب فحسب، لا يخرب نسيجه الاجتماعي وثقافته فحسب، لا يعمل على تشويه هويته وانتمائه فحسب، لا يجعل منه شوكة في خاصرة أشقائه العرب والخليجيين على وجه التحديد فحسب… بل هو يفعل كل ذلك ويزيد، وهو بذلك غير معني بحقوق الجيرة، ولا بسيادة دولة، ولا بأمن واستقرار المنطقة، وحجته واضحة (العراق بات ضيعة من ضياع الإمبراطورية الفارسية) كما صرح المستشار يوسفي، و(العراق كان لنا في الماضي وهو ملك إيران في الحاضر ومن حقنا أن ندخل العراق دون إذن من أحد) الجنرال الإيراني عطا الله صالحي، المعلوم أن النظام الإيراني في إطار أجندته المشؤومة لن يتوقف عن إيذاء العراق بشتى الطرق والأساليب ما استطاع لذلك سبيلا.
في هذا الإطار يمكن أن نفهم عدوان إيران الغادر يوم الاثنين الماضي، عندما دفعت عبر نقطة زرباطية الحدودية بما لا يقل عن 500 – 750 ألفا من رعاياها لاجتياح الحدود بحجة زيارة الأربعينية، دون جوازات سفر ولا سمات دخول ولا تدقيق أمني أو صحي أو……إلخ، هذه ليست المرة الأولى، بل سبقتها حوادث مماثلة في الماضي في استباحة كاملة لسيادة الدولة العراقية وكرامتها. الناطق باسم الحكومة الإيرانية حاول أن يبرئ ساحتها من المسؤولية عندما ذكر أن النظام عجز عن كبح جماح هذه الحشود، وفقد السيطرة عليها يدفعها الحنين والشوق لزيارة كربلاء، وهو، أي النظام، سوف يحاسب الأشخاص بعد عودتهم إلى أرض الوطن. أفضل تعليق على هذا التصريح البائس الذي يدعو للسخرية (حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له)، النظام الإيراني لا يسمح في العادة بتجمع خمسة أشخاص دون إذن مسبق، فكيف تجمعت هذه الحشود الكبيرة دون موافقته، ولو افترضنا صحة ادعائه فأين ذهبت قوة البسيج والمليشيات المرتبطة بالخامنئي، ناهيك عن الوزارات والأجهزة الأمنية التي بسبب ممارساتها القمعية يصنف النظام الإيراني بأنه شمولي.
سؤال آخر، هل يسمح النظام الإيراني لمواطن إيراني واحد ومهما كانت الذرائع والأسباب أن يعبر نقطة حدودية إيرانية دون جواز سفر أو سمة دخول للدولة المقصودة؟؟ فكيف تسنى للآلاف العبور من نقطة حدود الجانب الإيراني، إن لم يكن النظام نفسه هو من سهل ودفع وأعان على هذا الغزو المدبر.
بالتأكيد لن يعود منهم أحد والمطلوب منهم الاستقرار والانتشار بين العراقيين تمهيدا لتجنيسهم في القريب العاجل كما جرى في السابق، محافظة ديالى المنكوبة ومناطق حزام بغداد وسامراء والنخيب مرشحة لاستقبالهم وإيوائهم، إن وظيفتهم هي العمل كطابور خامس مجند لخدمة مصالح إيران، وتأكيدا لذلك ذكر العديد من شهود العيان أن الغالبية العظمى من الغزاة، إنما كانوا شبابا قادرين على حمل السلاح، وأغلب الظن أنهم ينتمون لمليشيات الحرس الثوري وفيلق القدس، مع بعض المرضى للتمويه ولا نستبعد أن يكونوا مصابين بالأمراض الانتقالية، كنقص المناعة المكتسبة كمرض الإيدز، الذي حذرت من انتشاره وزارة الصحة الإيرانية مؤخرا، ونبهت إلى أن ثلثي المصابين غير معروفين ولا مسجلين وهم بالتالي بمنزلة وباء متنقل من شأنه أن يفتك بالعراقيين دون رحمة، ولاسيَّما في المناطق المتوقع أن ينتشر فيها هؤلاء. لا أعتقد أن إيرانيا يزور العراق دون أن يحمل معه كمية من المخدرات، إما لاستخدامه الشخصي أو للاتجار بها، وهذه طامة كبرى أخرى على الشعب العراقي.
موقف حكومة العبادي، حيث اكتفت ببيان لا يقدم ولا يؤخر، هو التواطؤ وكان بمقدورها لو أرادت أن تتخذ إجراءات استباقية أو لاحقة، أن تعزز النقطة الحدودية بقوات عسكرية كافية لردع المعتدين حال ملاحظتها هذه التجمعات المشبوهة، وهي لاشك كانت تراقب تعاظم حشودهم خلال الأيام القليلة الماضية، كما كان بمقدورها لاحقا أن تعمل على تطويقهم وإجبارهم على العودة بالقوة، لكنها لم تفعل، بينما نراها قد استخدمت القوة المفرطة مع المواطنين العراقيين النازحين من الأنبار، ألم تحاصر الآلاف وحتى اللحظة وتمنع عبور حتى المرضى والمسنين والمعوقين والنساء والأطفال من جسر بزيبزغرب بغداد، ألم تحرم مئات الألوف من العوائل النازحة من حقها في العودة إلى محافظاتها ومناطق سكناها بعد تحريرها من تنظيم الدولة داعش!.
للتعتيم على هذا العدوان الصارخ، انبرت أفواه فقدت الحس الوطني ومعاني العزة والكرامة في خطاب متهافت يحاول حرف الانتباه عن هذا العدوان إلى حوادث مفتعلة، حيث انشغلت عن قصد وسائل الإعلام الممولة من ميزانية الفقراء والمحرومين من الشعوب الإيرانية للترويج لأخبار مفبركة عن استقدام مائة ألف مقاتل أمريكي وعربي وتركي للعراق.. متجاهلة حقيقة ماثلة على الأرض في نقطة الحدود، حيث لازال فعل الغوغاء ماثلا من دمار وخراب.
أعلم ليس إيران فحسب تستبيح سيادة وطني رغم أنها الأكبر والأخطر، ذلك لأن أبعاد مخططها إستراتيجي ولا يقتصر على ردود أفعال تكتيكية أو طارئة كما هو حاصل بالنسبة لتدخل الآخرين، وهو مرفوض بالطبع، والمعروف أن غزوها للعراق لم يتوقف منذ عام 2003، أما اليوم فمستشاروها وقياديوها في الحرس الثوري وفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني يشاركون بفعالية مع المليشيات الموالية لها، جهارا نهارا، وما حصل عبر زرباطية إنما هو تهديد مضاف.
إيران تخطط لما هو أعظم وهي تتحسب لقادم الأيام، وهي تعلم أن بقاء الحال من المحال، والفرصة قد لا تتكرر، إذ العالم مشغول اليوم بمحاربة الإرهاب ويغض الطرف عن تجاوزات خطيرة من هذا النوع كما هو موقفه المخزي من طاغية الشام، ولا أمل في مخاطبة المجتمع الدولي ولا حتى القريب منا والبعي؛ إذ يبدو أن ملف العراق مؤجل، ولا مفر من أن يتحمل العراقيون أنفسهم كامل المسؤولية في تحويل (عراق حديقة إيران الخلفية) إلى (عراق يكوي بناره أصابع إيران) حتى تكف أذاها عن شعب العراق، بل شعوب المنطقة أجمع.