هناك مرتكزان متلازمان يقوم عليهما النظام الديموقراطي الحديث وهما اقتصاد السوق والحريات العامة، ومن الحقائق التاريخية أن الديموقراطية نشأت كنتيجة مباشرة لتسارع النمو الاقتصادي، وبالتحديد توسع الصناعة وتطورها كما يرى أرنست غلنر، لأنها رفعت دخل الفرد ما ساهم في نمو الطبقة الوسطى التي تعتبر عماد النظام الديموقراطي. وحتى لو أخذنا برأي مايكل مان، الذي يرى أن المشاعر القومية ومعها الحاجة للمشاركة السياسية قد نمت وتصاعدت قبل حلول العهد الصناعي في القرن التاسع عشر، بل مع نمو التجارة في القرن الثامن عشر، فإن النظام الديموقراطي يبقى مرتبطاً بالاقتصاد الحر المقترن بالتعددية وإطلاق الحريات العامة.
لقد كان الشعار الذي رفعه قادة الثورة الأميركية ضد بريطانيا «لن ندفع الضرائب من دون أن يكون لنا ممثلون في البرلمان»، وهذا يؤكد ارتباط النظام الديموقراطي بتطور الصناعة والتجارة وتنامي حجم الطبقة العاملة. وكما أن الشيوعية مرتبطة بالاقتصاد الموجه والانضباط الاجتماعي والسياسي، فإن الديموقراطية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد الحر والتعددية السياسية والاجتماعية ولا يمكنها أن تنشأ من دونهما. لكن الأداء الاقتصادي للنظام الديموقراطي لن يكون بالضرورة أفضل من أداء الأنظمة الأخرى غير الديموقراطية، والتجارب الحديثة للعديد من الدول الديموقراطية برهنت على ذلك. فقد تزامنت عملية التحول الديموقراطي مع نشوء أزمة اقتصادية في أميركا اللاتينية في الثمانينات (ما عدا تشيلي)، وحصل الشيء نفسه في أوروبا الشرقية في التسعينات (ما عدا تشكوسلوفاكيا التي شطرتها الديموقراطية إلى شطرين: تشيخيا وسلوفاكيا). وفي إسبانيا انخفض النمو الاقتصادي في ظل النظام الديموقراطي مقارنة بما كان عليه في عهد فرانكو، ولم يرتفع إلا بعد عشر سنوات.
كما إن إطلاق الحريات العامة في شكل مفاجئ ومن دون أن يكون مصحوباً بتنامي قوة القانون ونشوء مجتمعات مدنية وسياسية واقتصادية، هو الآخر يشكل خطراً على المجتمع لأنه يؤدي إلى فوضى وحروب أهلية. الديموقراطيات الناجحة هي تلك التي حصلت فيها عملية التحرر الاقتصادي وبناء المؤسسات قبل التحول إلى الديموقراطية. وقد حصل هذا في إسبانيا في عهد فرانكو وبولندا في عهد ياروزلسكي وتشيلي في عهد بينوشيه، وكوريا الجنوبية في عهد بارك.
في العراق، لم يسعَ النظام السابق إلى تطوير نفسه، بل زاد في قمعه وإيغاله في الاستبداد وتبذير المال العام حتى أن صدام حسين بنى خمسين قصراً في مختلف أنحاء العراق في التسعينات عندما كان البلد يرزح تحت عقوبات اقتصادية خانقة دفعت الناس لبيع ممتلكاتهم لتأمين الغذاء. لذلك كان بناء الديموقراطية متعثراً بعد سقوط النظام لأنه بدأ من الصفر، فلم يكن هناك مجتمع مدني أو سياسي أو اقتصادي، ولا دولة قانون أو مؤسسات حديثة راسخة.
ويرى صاموئيل هانتنغتون أن التحرر الاقتصادي في البلدان الإسلامية يعزز من قوة الحركات السياسية والاجتماعية المشكوك في إيمانها بالديموقراطية. أما دانيال بايمان وستيفن فان إيفيرا فيعتقدان بأن انطلاق عملية التحول الديموقراطي من دون إيجاد الحلول للأزمات القومية والخلافات المجتمعية سيقود إلى تطورات خطيرة وأزمات اقتصادية وربما إلى حرورب أهلية. وهذا ما حصل في العراق، فبدلاً من استثمار الظروف المواتية للتقدم والتطور التي أوجدها سقوط الدكتاتورية، استغلّت الجماعات (السياسية) تلك الظروف لإثارة النعرات الطائفية والعرقية والاستئثار بالسلطة والاستحواذ على ممتلكات الدولة والإثراء غير المشروع وإقصاء الخصوم بشتى الوسائل بما فيها التجويع والتهجير والتغييب الجسدي.
الانفتاح الاقتصادي في العراق حصل في الفترة التي أجريت فيها الإصلاحات السياسية وكان هناك ثمن سياسي واجتماعي وإنساني ومعنوي تجلى في معاناة السكان جميعاً والفقراء تحديداً الناتجة من التحول في النظام الاقتصادي، وقد دفعه السياسيون أيضاً الذين تضررت سمعتهم كثيرًا، إذ اختلط الحابل بالنابل ولم يعد أحد يثق بالنظام السياسي أو السياسيين أو الديموقراطية بسبب الفساد والفوضى السائدة.
بعض محاولات الإصلاح مثل استبدال البطاقة التموينية بنظام آخر وزيادة أسعار الكهرباء لم ينجح بسبب المعارضة الشعبية ووقوف رجال الدين ضدها، وهذه إحدى مشاكل تداخل الدين بالسياسة. وبسبب ذلك بقيت الكهرباء شحيحة واستمر الفساد، سواء المرافق للبطاقة التموينية وعقود الكهرباء، أو في مؤسسات الدولة في شكل عام، إذ قلما سَلِمَ مسؤول، صغيراً كان أم كبيراً، من تهم الفساد، بل إن بعضهم هرب أو ذهب الى السجن، وكان بينهم أبرياء. لقد وصل الأمر إلى أن يرفض الموظفون في بعض المؤسسات الترقية إلى منصب أعلى خشية الاتهام بالفساد!
الإصلاحات الاقتصادية والإدارية أصبحت اليوم ضرورة قصوى، وإن تأجيلها سيقود إلى مزيد من التدهور. يجب أن تكون هناك شجاعة ونكران ذات عند السياسيين في هذه المسألة لأنها لا تتعلق بالسياسة بقدر تعلقها بتماسك البلد وتطوره. من الضروري أن يساند السياسيون الإصلاحات حتى وإن كانوا سيتضررون منها على الأمد القصير. وإن كان الاتفاق السياسي على هذه المسألة صعبًا، فربما يكمن الحل في تشكيل حكومة من الخبراء (التكنوقراط) كي تضطلع بهذه المهمة الصعبة، وعندها لن يتحمل السياسيون أي مسؤولية أمام ناخبيهم عن الأضرار الناتجة منها.
الاقتصاد الحر يعتمد على القطاع الخاص في شكل أساسي، وتسود فيه الشفافية وسلطة القانون، لكن هذا مازال متعثرًا على رغم الجهود التي يبذلها الدكتور العبادي، فما زال القاضي وضابط الشرطة والموظف والمسؤول يخشون عواقب اتخاذهم القرارات الصحيحة إن كانت ستضر بالمتنفذين، خصوصاً الذين يمتلكون السلاح.
وعلى رغم تشدق أكثر الأحزاب السياسية بالمبادئ وخدمة الشعب في خطابها الرسمي، لكن هناك غياباً شبه تام للشعور بالمسؤولية الوطنية والإنسانية، وعدم اكتراث بالمصلحة العامة، واستغلالاً فاضحاً لبساطة الناس وجهلهم في القضايا السياسية والاقتصادية والإدارية. الكثير من الأحزاب والشخصيات السياسية متورط في التجاوز على المال العام وممتلكات الدولة، وهذا لم يعد خافياً، لكنها في الوقت نفسه تمارس خطاباً شعبويا وتتستر بالدين والشعائر والطقوس والطائفة والعشيرة والمنطقة وتستغل كل ورقة توت تجدها لإخفاء تجاوزاتها. لقد عبر الدكتور العبادي عن تذمره من ممارسات الأحزاب أثناء حديثه إلى وسائل الإعلام أخيراً وقال «إن الظلم لن يدوم». نعم، لا شيء يدوم، لكن الظلم استمر طويلاً في العراق ولا ضوء في نهاية النفق.
نقلا عن الحياة