23 ديسمبر، 2024 1:03 ص

العراق.. وتغييب النخب الثقافية والصحفية!!

العراق.. وتغييب النخب الثقافية والصحفية!!

ربما كانت مرحلة الستينات والسبعينات ، وحتى منتصف الثمانيات ، هي الفترة الذهبية التي شهد فيها العراق بزوغا لنجوم لامعة من النخب والكفاءات الثقافية والصحفية، وكانت من أكثر فترات العراق إزدهارا وتقدما وخصوبة في ميادين الفكر والوعي والثقافة والإعلام والفن والعطاء والفلسفة والإهتمام بها وبمكانتها ، واعتلت الكثير منها على مدى سنوات طوال، مناصب رفيعة في سلطة القرار وفي مؤسسات ثقافية وأدبية وعلمية عليا، وكانت تحظى منجزاتها وما تفتقت به عبقريتها ، بالتقدير والاحترام للدور والمكانة على أكثر من صعيد!!

أجل ، كانت فترة السبعينات ، فترة الإزدهار والتفتح الفكري المتوهج والنبوغ الإبداعي في ميادين الثقافة والفن والعلوم بمختلف صنوفها ، وتقدم حضاري على مستوى السلوك والادراك والوعي، وترى قامات أدبية وصحفية وثقافية وفنية تحفل بها المؤسسات العليا ، أو ضمن المواهب المختلفة الخاصة بها، وهي تعمل كخلية نحل لاتعرف التوقف، وأوصلت عصر الثقافة والابداع في العراق الى أعلى مراحل التطور المعرفي والإنساني، كادت أن تغطي على نجوم ثقافية وفنية عربية ، أو تقفز الى واجهة اهتمامات مؤسسات ثقافية عربية وعالمية، لما حظيت به من تميز وابداع وتألق في كل بحور المعرفة ، وحظيت بإشادات على مستوى الوطن العربي والعالم ، لما قدمته من نبوغ فكري وقيمي وأخلاقي وانساني، إرتقت بها كفاءاتها الى حيث المنازل العليا والأماكن الرفيعة التي تستحق أن تكون عليها!!

أما مابعد عام 2003 وحتى يومنا هذا ،فإن تلك النخب والكفاءات أبعدت تماما وانكفأت الكثير من أوساطها في عزلة رهيبة ومحاولات إستهداف لعقولها وشخوصها وابداعها، وتراجع دور الثقافة والصحافة والأدب والفن ،وعانى العراق من تغييب واقصاء وتهميش وقتل وترويع ، لنخبة وكفاءاته ، ولمختلف أوساط شعبه، ماتزال آثارها المروعة تمتد حتى هذه اللحظة ، التي يشهد فيها العراق، إنحسارا في الدور والمكانة ، بعد إن غابت نجوم وأقمار لامعة عن ساحته، وفضل كثير منها الإنزواء والإبتعاد عن الظهور، ظنا منه أنه يواجه محاولات وأد واستهداف وابعاد لدور الثقافة والفن والابداع الذي إنحسرت ينابيعه وجفت براكين تدفقه ، حيث يعيش أغلب العراقيين في مراحل إنحطاط وتدهور كبيرين ، حتى على صعيد مستويات المعيشة الدنيا، لم يشهده العراق ربما الا في العصور المظلمة في تاريخه المعاصر.

والطامة الكبرى أنه حتى من سنحت لهم الفرصة من كوادر الثقافة والادب والفن من تسلم بعض المناصب العليا ، كانوا في الغالب قد أهملوا هم أيضا معاناة زملائهم وبني جلدتهم من نخب الثقافة والوعي، وشاركوا السلطة في مراحل تغييبهم وحرمانهم من أن يكونوا أعمدة صنع القرار او ان يكون لهم شأن في بناء بلدهم يرتقي بهم الى حيث يحلمون، وما يستحقه هذا البلد الضارب في أعماق الحضارات تقدما ووعيا ونهوضا وعطاء ومنجزات،ولم تكافيء السلطة الغارقة في الفساد ونهب ثروات العراق وتضيع مستقبل أجياله والبحث عن مغانمها وبقائها لأطول فترة في السلطة، أيا من المبدعين منهم ممن قدموا عطاءات ثرة، وأبدعوا في مجالات التأليف والنشر ، والحصول على الشهادات العليا ، إسهاما منهم في الإرتفاع بمستوى الثقافة والوعي لدى أجيال العراق وشبابه الناهض وعموم شعبه، حتى في أحلك ظروف العراق تدهورا وظلاما،وقتلا وترويعا متعدد الصور والأشكال ، ومن قدم صورا من معالم الإبداع والتميز لم يجد أي إهتمام يرتقي الى حجم ماقدمه من عطاء كبير في الإنتاج الثقافي والفني والجمالي والاعلامي من كتب وإصدارات ودواوين شعر ورواية وفنون إبداعية مختلفة، راحت تملأ ساحات المعارض العربية وتعد مفخرة للعراق ، وغابت كفاءات كثيرة وشردت الكثير منها خارج العراق، ومن بقي منهم، راح يندب حظه العاثر، ومن عاد فقد بقي يعيش تلك العزلة الخانقة والإهمال المتعمد، وبقي الساسة الأغبياء والفاسدون والجهلة والطارئون وانصاف المثقفين ومن سلطتهم الأقدار ظلما في غفلة من الزمان ، هم من يتحكمون بالمشهد العراقي ويستحوذون على سلطة القرار ، وهو ماخلق حواجز من كتل كونكريتية وجدران صلدة من العزلة بين ساسة البلد ونخبه الثقافية، حتى في زمن من تولى منهم مناصب رئاسة الوزراء أو حتى رؤساء جمهوريات ، أو كانوا من المحسوبين على الأوساط الصحفية أو الثقافية ، وتحول “البعض” منهم الى أبواق مأجورة لأهواء أصحاب الفساد والرذيلة ، برغم أن من تلقد منهم موقعا ما، كانوا مغمورين في أوساطهم ، ولم يكن لهم شأن يذكر، بل يكاد ينطبق عليهم المثل القائل: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع السهام المهند!!

أجل.. هذه هي الحقيقة المرة بكل ظلمها وظلامها وفجورها وطغيانها المقيت، بل غيبوا حتى دور النقابات والاتحادات الثقافية والمعرفية والفنية ، وأنطفأت ادوارها وتراجعت مكانتها ، وشهد العراق خلال السنوات الثمانية عشرة الماضية أسوأ عهود الثقافة والوعي إنحطاطا وتدهورا ، وتراجعا يؤسف له في الدور والمكانة ، وهو ما تؤكده أغلب القامات الشامخة ونخبها المثقفة في عصور ديمقراطية الفوضى والإنفلات والتغييب القسري لكل المبدعين العراقيين ومن يريدون إعلاء مكانة بلدهم لكي تعود الى الواجهة من جديد!!