اخيرا تنبه المسؤولون العراقيون الى مخاطر الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل القومي وادرارة الاقتصاد العراقي وذلك بعد حصول الازمة المالية العالمية وما خلفته من اثار وتداعيات خطيرة وما احدثته من هزات ارتدادية اربكت اقتصاديات العالم باسره.
وفق كل المقاييس تكون مثل هذه الدعوات متأخرة جداً ولا تبشر ببدائل تنموية على الاقل في المستقبل القريب اذ لاتوجد ملامح لقيام مثل هذه البدائل التعويضية، فالمعروف في جميع اقتصاديات العالم ان نشاطها يعتمد على مقومات زراعة متنوعة متطورة وصناعة متقدمة مصحوبتين بانتاج وافر ومعتمدتين على خبرات وكفاءات علمية وحرفية وبوجود اسواق وطلب متواصل بسبب توفر جودة النوعية وانخفاض سعر الكلفة. مضافا لهذين العنصرين وجود ثروة معدنية متنوعة وبوفرة انتاجية عالية، كذلك وجود التجارة المزدهرة وقيام الاستثمارات وازدهار الاسواق والمردودات المالية الناتجة عن الضرائب والترانسيت البري والبحري والجوي وهذه المقومات بجملتها تشكل عصب اقتصاديات وشريان حياة وازدهار ورفاه الاوطان والشعوب، لكن هذه المقومات ظلت بعيدة عن تفكير ورؤى وخطط قادة العراق وخاصة من عقود سبعينات القرن الماضي والى يوم الناس هذا، اذ حشدت السلطات السابقة كل ثروات العراق وطاقاته لحماية السلطة وتشييد القصور الباذخة والتبرع بمليارات الدولارات لانظمة ودول وقفت الى جانب النظام في حروبه العبثية التي اكلت كل واردات العراق واثقلت الميزانية العراقية بمليارات الدولارات من الديون والتعويضات واعادت العراق الى العصور الوسطى. نعم لقد انشغلت تلك السلطة بديمومة الآلة الحربية حيث انشأت اكثر من اربعين مصنعاً ومنشأة لانتاج وتصنيع السلاح بمختلف انواعه بما في ذلك المواد المتفجرة والكيمائية واقامت لذلك وزارة وهيئات سخرت لخدمتها ميزانية مفتوحة وحولت الافكار العلمية والهندسية حصريا لهذا الغرض مهملة عن قصد او جهل حقول الزراعة والصناعات الاخرى الانتاجية والخدمية والاستثمارية والتي تعود بمردودات مالية للخزينة العراقية او تسد حاجة العراق فيحفظ عملاته الصعبة التي يمتصها الاستيراد المتواصل لابسط المنتجات الزراعية والسلعية والكمالية.
وباستثناء العقد الاخيرمن فترة النظام الملكي وفترة الجمهورية الاولى اي خمسينات وستينات القرن الماضي حيث شهد العراق شبه اكتفاء ذاتي من المنتجات الزراعية والحيوانية اذ كان العراق وقتها يصدر الحبوب وخاصة الرز العنبر ويصدر التمر والحيوانات والجلود والاصواف، وقامت صناعات واعدة للسجاد والمعلبات والاحذية والاصباغ والاقمشة والبطانيات والبطاريات وتجميعية للراديوات والتلفزيونات والثلاجات والمجمدات وكافة الاجهزة المنزلية، وقامت مشاريع واسعة للقطاع الخاص فضلا عن القطاع المشترك والقطاع العام ناهيك عن الورش الحرفية التي ساعدت تلك المشاريع في سد معظم الحاجات المحلية وساهمت في توفير العملة الصعبة التي تشكل ظهيراً قوياً لمقومات الاقتصاد العراقي ودخله القومي.
باستثناء تلك الفترات لم يشهد العراق الاّ تراجعا على جميع الصعُد فقد جفت الانهار وجففت الاهوار واضمحلت الثروة السمكية وطيور الماء وامحلت الاراضي ويبست البساتين حتى وصل الامر الى اقتلاع اجود انواع النخيل وبيعها لتسديد بذخ وديون اركان السلطة، وترك الفلاحون والمزارعون مهنتهم وهجروا حقولهم الخاوية ليبحثوا عن اعمال بسيطة داخل المدن، واستمر تدهور الاوضاع حتى سقوط السلطة السابقة. مع بداية العهد الجديد الذي تزامن مع الارتفاع الهائل في اسعار النفط حيث وصل سعر البرميل اكثر من 135 دولار لم يستثمر العراقيون هذه الزيادة في احياء المشاريع الصناعية والزراعية والاستثمارية للاسباب التالية:
1- اضطراب الوضع الامني وانشغال كل اجهزة الدولة في مكافحة الارهاب وتخصيص معظم واردات النفط لهذا الغرض.
2- عزوف الشركات الاجنبية عن اقامة المشاريع الصناعية والاستثمارية للسبب اعلاه.
3- انفتاح الساحة العراقية على جميع البضائع والمنتجات ومن مختلف المناشىء، وقد ساعد على هذا الانفتاح الذي ادى الى تسرب مليارات الدولارات من العملة الصعبة للخارج الامور التالية:
أ-حاجة المواطن لأبسط المنتجات وتعطشه بعد حصار دام لاكثر من ثلاثة عشر عاما وما انتجه العالم من سلع وابتكارات خلال هذه الفترة.
ب- الحدود المفتوحة وغياب الرقابة النوعية والضريبية.
4- تبديد ارقام مهولة من الدولارات نتيجة الاختلاس والفساد المالي والاداري.
5- الرواتب والتخصيصات الضخمة للرئاسات الثلاث والوزارات ودوائرها.
6- عدم التمكن من تصدير الكمية المقررة من النفط لاسباب فنية وسرقة جزء كبير من تلك الكمية خاصة في السنتين الاوليتين التي اعقبت سقوط السلطة السابقة وعدم تأهيل المنشأت والمصافي المتوقفة.
نعم لم تستثمر الميزانية التي بلغت عشرات المليارات من الدولارات في انعاش الاقتصاد العراقي سواء على مستوى القطاع العام او الخاص او المشترك ولم تتخذ اجراءات لمنع تدفق السلع والمواد الاجنبية التي تسببت في اغلاق معظم المعامل والورش العراقية ابوابها لعدم تمكنها من منافسة تلك السلع على مستوى الجودة او الاسعار. كما ان خروج اكثر الرساميل العراقية الى بلدان الجوار لما تقدم من اسباب ساهم بشكل كبير في اضعاف قيام المشاريع الانتاجية وبالتالي اضعاف الاقتصاد العراقي بصورة عامة.
لاشك ان التوجه الجاد في البحث عن بدائل للتنمية تقف الى جانب الثروة النفطية من اجل الوقوف بوجه الازمة المالية والعمل على اعادة بناء اقتصاد قوي يقوم على اسس صحيحة باعمدته الرئيسة الزراعية والصناعية والتجارية امر في غاية الاهمية ويجب ان تتظافر جميع الجهود وتحشد كل الطاقات في سباق مع الزمن قبل فوات الاوان واستفحال الازمة.