23 ديسمبر، 2024 6:23 ص

العراق والناقمون

العراق والناقمون

يصاب المرء بالإحباط حينما يستمع الى الأخبار في كل العالم  . ويوقن أنه يعيش في أزمة إنسانية شديدة التعقيد ومليئة بالشر والعنف ؛ فقد بنيت فلسفة الأخبار وأهميتها على مقدار عنفها وشذوذها . بيد أنها لا تنفك بين الحين والآخر بذكر التجارب التي تفخر بها البشرية من إبداع فردي أو إنجاز مؤسساتي . ولا يقتصر الأمر على الإعلام بل يتعدى ذلك الى كل حركة المجتمع ونشاطاته ؛ فتعيش الناس حالة من التوازن بين السلبي والإيجابي تتفاوت صعوداً ونزولاً حسب سيطرة الأحداث الكبرى .    

إلا أننا في العالم العربي عموما ، وفي العراق خصوصا نمارس النقمة في كل شيء  ؛ فعدم الرضا يطغى على كل سلوكياتنا وحركتنا وأخبارنا وكلامنا  ؛ سواء في الإعلام أم في ندواتنا العامة أم في أحاديثنا الخاصة . فلا تجد بيننا غنياً أو فقيراً ، متعلماً أو أمياً ، موظفاً أو عاطلاً ، رجلاً أو امرأة ، من هو راض عما يراه ويسمعه ويعيشه في وطنه . وهو أمر سهل تبويبه ؛ فعراقنا اليوم في أسوأ أحواله أو هكذا ننظر إليه ونشعر به ، أو هكذا رسموا لنا ملامحه .   لاجرم أنه تبرير جاهز لمن يمارس دور النقمة ؛ فما إن تعترض عليه حتى يقابلك به . فيقول : هذا واقعنا ونحن أمة متخلفة لاتستحق الحياة ؛ ومثل هذا الكلام الكثير ، الذي كل واحد منا يعرفه جيدا ؛ فقد أصبح من أدبياتنا التي نتكلم بها جهاراً نهاراً ؛ كلٌّ حسب منطقه وثقافته . ولايقتصر الأمر على ذلك بل ترى من هو خارج الحدود يغذي هذه النقمة ؛ ويضرب الأمثال ويحاول أن يعقد المقارنات بين عراقنا المنهك وإماراتهم وممالكهم وجمهورياتهم المتكالبة علينا .
     الناقمون في العراق كثر؛ وهم يشكلون الأغلبية المطلقة فيه على أقل تقدير. وهم من كل الملل والنحل ، والطوائف والقوميات ، والأعماروالأجناس ،والآيدلوجيات والتحزبات ؛ ويمارسون شتى أنواع النقمة ؛ باللسان والكلام ، واللامبالاة ، والتضخيم والتدليس ، والتسويق للأفكار الهدامة ، والتسخيف والاستهزاء والسخرية ، بل يصل الحال في نقمتهم الى العنف وبث الكراهية والاغتيال  والقتل والفتنة .
   لقد خلقت هذه النقمة المتنامية في مجتمعنا جواً من التشاؤم العارم الذي أفقد فينا الحماس ، وقتل كل الآمال في النظر الى مستقبل مشرق ؛ فأضحت أحلامنا لاتتعدى الهجرة الى وطن آخر وإن كان عبر طريق الموت ، أو المضي في حياتنا والمشي مع الحائط لتحصيل السلامة ، أو نهب ما يمكن نهبه من خيرات الوطن لتحقيق حلم مؤجل في مكان آخر. فهم في كل لحظة يسرقون منا فرحة بالانتصار على أحقر عدو عرفته البشرية . ويسرقون منا الزهو بإبداع عراقي أو فوز فريق أو إنجاز مؤسساتي أو تحقيق حلم وإن كان صغيرا .
     هؤلاء الناقمون هم أشد وطأة على العراق من داعش وأخواتها ، والفساد والمليشيات والعصابات ؛ فهؤلاء كمصاصي الدماء ولكنهم يمصون كل معنوياتنا ، وكل حماسنا ، وكل أفكارنا التي تبني الوطن ؛ وكأنه فايروس ينتقل كالبرق في نفوسنا ليعطل أدمغتنا وعقولنا ؛ وينشر فيها اليأس كما تنتشر النار في الهشيم . فياليتنا نلتفت الى هذا الخطر المميت ، ونحقق الموازن الموضوعي لهذه النار التي إن تركناها ستحرق الأخضر واليابس وحينها لن يبقى في مجتمعنا متسع إلا لهؤلاء وللهزيمة .