18 ديسمبر، 2024 10:02 م

العراق والناتو بين الرغبة والامتناع

العراق والناتو بين الرغبة والامتناع

في العاشر من هذا الشهر كانون الثاني 2018 ، اعرب رئيس اركان القوات المسلحة العراقية الفريق عثمان الغانمي عن رغبة العراق في التعاون مع التحالف الدولي لأعادة هيكلة القوات المسلحة العراقية ، كما اتفق مع حلف الناتو لتجهيز قوات الحدود بأسلحة وأجهزة رقابة متطورة . وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه ، وفي مكالمة هاتفية مع الأمين العام للحلف السيد ستولتنبرغ ، أعرب رئيس مجلس الوزراء الدكتور العبادي عن رغبة العراق في استمرار الناتو في تدريب قواته ونقل عمليات التدريب الى داخل العراق. لحد الآن والخبريين عاديين جدا . فالقوات المسلحة العراقية في حاجة ماسّة لأعادة الهيكلة بعد حربها مع داعش . وعادة ما تشرع الدول في اعادة هيكلة قواتها بعد الحروب أو حتى بعد المعارك أعتمادا على سير المعركة ونتائجها . وهذا لايحدث قي القوات المسلحة فقط ، بل ينسحب اعادة الهيكلة على المؤسسات المدنية والشركات الخاصة وغيرها . ولا غريب في طلب الدكتور العبادي من الناتو الاستمرار في مهمات التدريب ، لأن العراق مرتبط بأتفاق شراكة فردي مع الناتو منذ عام 2012 . ولكن الغريب كيف يستأنف الناتو التدريب في داخل العراق من دون ان يكون هناك غطاء قانوني لبعثته بما فيها خبراؤه ومستشاروه سواء كانوا عسكريين أم مدنيين . وبموجب هذا الغطاء تتحدد الولاية القضائية التي تمكّن البعثة من القيام بواجباتها. وعليه فان من الصعوبة ، أو من المتعذر ان تعود بعثة الناتو الى العراق من دون هذا الغطاء القانوني ، فهل قرّر الدكتور العبادي ان يوفّر لها مثل هذا الغطاء من دون العودة الى البرلمان ! أم انه تحدث بدافع الرغبة وبيان حسن النوايا فلم يتنبه الى البعد القانوني المترتب على طلبه !!
دخلت بعثة الناتو الى العراق استنادا الى قرار مجلس الامن 1546 لسنة 2004 ، وتمتعت بالغطاء القانوني الممنوح للقوات متعددة الجنسية التي تمّ الاعلان عنها بموجب قرار مجلس الامن 1511 لسنة 2003. وعندما غادرت القوات متعددة الجنسية العراق في 31/12/2008 بموجب قرار مجلس الامن 1830 لسنة 2008 أستنادا الى طلب من رئيس مجلس الوزراء آنذاك السيد نوري المالكي، وفّرت لها اتفاقية انسحاب القوات الامريكية من العراق وتنظيم أنشطتها خلال وجودها المؤقت فيه الغطاء القانوني . وبأنسحاب القوات الامريكية من العراق نهاية عام 2011 دخل الناتو في مشاورات مع الحكومة العراقية للتوصل الى أتفاق بشأن الولاية القضائية ، ولكن لم تتمخض تلك المشاورات عن شيء ، الامر الذي اجبر بعثة الناتو على الأنسحاب من العراق في التاريخ الذي انسحبت فيه القوات الامريكية من العراق وهو 31/12/2011 . ولوجود رغبة لدى الطرفين في أستمرار التعاون ، تمّ التوصل الى اتفاق برنامج الشراكه الفردي خلال عام 2012 . من الطبيعي ان هناك اطرافا داخل العراق كانت قد سعت الى افشال تلك المشاورات . أطراف مدفوعة من قوى خارجية ، لاتريد للعراق أن يطوّر علاقاته مع الناتو لأسباب سياسية ومخاوف أمنية تتعلق بها وحدها دون الاعتبار لمصالح العراق ، على الرغم من ان مهمّات الناتو في العراق ليست قتالية وانما تقتصر على التعاون والتدريب وبناء القدرات . سيكون العراق بحاجة ماسّه الى مثل هذا التعاون ، اذا ماكان فعلا يسعى لتحديث قوّاته المسلحة واعادة هيكلتها وبالذات في مجال قوّات الحدود . لهذا فان دعوة الدكتور العبادي والفريق الغانمي جاءت في وقتها وفي محلّها .
من المؤسف ان عقلية المؤامرة لدى غالبية المتحكمين في مصائر العراق والعراقيين ، ووقوعهم تحت تأثيرات قوى خارجية ، تصرفهم عن رؤية المصالح الحقيقية للعراق . وما فتيء هؤلاء ينظرون الى الناتو بعقلية الحرب الباردة وكأن الاتحاد السوفياتي وحلف وارشو ما زالا قائمين . هؤلاء لا يدركون انّ مهام الناتو قد توسّعت وتغيّرت بشكل كبير . وأهمّ ما تغيّر فيه هو المفهوم أو الفكرة التي قام عليها حلف الناتو والتي تأسست على نقطتين جوهريتين : الاولى تتعلق بنطاق العمل والثانية تتعلق بنوعية الحدث . والمادة الخامسة من ميثاق الحلف تتناول هاتين النقطتين . فنطاق عمل الحلف يتحدد بجغرافية دول اعضائه، ونوعية الحدث ضمن هذا النطاق الجغرافي هو العدوان المسلح الذي يتعرض له احد الاعضاء .هذا المفهوم لم يعد قائما الآن . فجغرافية الحلف أتسعت كثيرا ونوعية الحدث تغيرت هي الاخرى . بدأ ذلك منذ عام 1994 حينما أعلن الحلف التوجه نحو الدول التي غادرت الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا من خلال آليات الشراكة من اجل السلام . والتوجه الى جنوب البحر الابيض المتوسط في اطار الحوار المتوسطي ، حيث كوّن شراكة مع مصر والاردن وموريتانيا والمغرب والجزائر وتونس واسرائيل . وفي عام 2004 توجه نحو دول الخليج العربية عبر مبادرة اسطنبول حيث كوّن شراكة مع الكويت والامارات العربية وقطر والبحرين . كذلك تنوّعت المهمّات التي قام بها من المشاركة في قوات حفظ السلام في مناطق مثل البوسنة والهرسك الى قوات مكافحة القرصنة التجارية كما حدث في منطقة القرن الافريقي والى قوات لحفظ الاستقرار كما هو الحال في افغانستان، وتجاوز ذلك الى الأنخراط في أعمال الاغاثة الانسانية استجابة لطلب المساعدة من الدول كما كان الحال في الولايات المتحدة عندما تعرضت لأعصار كاترينا في عام 2005 ، وفي باكستان على اثر تعرضها للزلزال والفياضانات خلال السنوات العشرة الماضية .
العراق له مصلحة حقيقية في تطوير علاقته مع الناتو لتشمل افاق ابعد من اتفاق الشراكة الفردي وبخاصة في مجال محاربة الارهاب وأمن الطاقة ، وكلا الميدانين حيوي بالنسبة للعراق . فلماذا لا يفكّر العراق ، وهو البلد الخليجي ، بتطوير تعاونه مع دول الخليج العربية وبخاصة في هذين الميدانيين في اطار مبادرة اسطنبول ! وبحكم الامكانات والقدرات والخبرات والتجارب المتوفرة لديه سيكون دوره مؤثرا ، وفي ذلك مصلحة لجميع الاطراف .