ربما يحمل هذا المقال طابعًا نقديًا أكثر مما هو لمحة تحليلية مختصرة لواقع نظام الحكم الديمقراطي الجديد في العراق الذي تجاوز عمره العقدين من الزمن.
فمنذ عام 2003، تبنى العراق نظامًا سياسيًا تعدديًا يفترض أن يوزع السلطات بطريقة توازن بين الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء، والبرلمان. ولكن ومع الشرخ الكبير الذي ولدته هذه العملية السياسية نتيجة التقسيم الطائفي للسلطة، أفرزت بنية معقدة مبنية على نظام تشوبه الأخطاء الكثيرة وتتداخل فيه الصلاحيات وتكثر فيه النفقات الخاصة حتى أصبحت هذه الرئاسات توصف بأنها ذات مراكز نفوذ مادي وإنفاق كبير. وربما تجذرت من خلالها أدوات حكم جديدة فعالة من خلال تبعيتها أو صناعتها لأحزاب جديدة الغاية منها التغطية على الفساد المالي الكبير.
ومع كل هذه المجريات، أصبح المواطن العراقي يرى ذلك التضخم الكبير في ميزانيات الرئاسات الثلاث في حين أن بلاده تعاني من أزمات خانقة في الخدمات كافة، سواء الخدمية منها أو الاقتصادية. والسؤال دائمًا: هل هذا النظام التعددي الحالي يخدم الدولة أم أنه يغذي منظومة محاصصة استطاعت أن تكسب أموالًا كثيرة من المال العام؟ وهذا كله بسبب تشظية السلطة وضعف الرقابة.
كان من المفترض أن يقوم النظام البرلماني العراقي على توزيع الصلاحيات، لكن غياب القواعد الصحيحة وعدم وضوحها برؤية دقيقة أفرز هذا التشظي الكبير في القرار السياسي، فأصبحت رئاسة الجمهورية تأخذ دورًا رمزيًا جدًا بينما السلطة التنفيذية تتصارع عليها قوى حزبية داخل مجلس الوزراء. أما السلطة التشريعية في البرلمان، والتي كان من المفترض أن تكون سلطة رقابية مستقلة، فإنها ما زالت منغمسة في الصراعات الداخلية بين الكتل ومصالح الزعامات التي فرضتها الأحزاب داخل مجلس النواب.
هذا التوزيع غير المتوازن مع غياب المحكمة الدستورية بسبب المجاملات أحيانًا قد أنتج بيئة سياسية رخوة بعيدة عن المساءلة، وقد انفلتت قرارات الإنفاق وأصبحت تمرر مشاريع بلا تدقيق، وكما نسميها باللهجة العراقية “حبر على ورق”. وأصبحت إعادة هيكلة المناصب والمخصصات بما يخدم الطبقة السياسية فقط، وليس للمواطنين أي وجود أو فائدة أو حصة تذكر من هذه الموازنات الكبيرة التي أصبحت ميزانية ضخمة يقابلها مردود محدود جدًا وخدمات تكاد تكون معدومة.
ان التقارير الرسمية وشبه الرسمية تشير إلى أن مخصصات الرئاسات الثلاث قد بلغت مليارات سنويًا وتشمل الرواتب والمخصصات والحمايات والسفر والنثريات وكل وسائل الترفيه للأشخاص الذين ينتمون إليها، في حين أن البلد يعاني ويفتقر للبنى التحتية الأساسية ويعيش بطالة مزمنة ونقص في الخدمات. ويبدو أن هذا الإنفاق الكبير يقابله استياء شعبي واسع ولكن دون وجود آذان صاغية له. وهنا لا يتعلق الأمر بالمبالغ فقط بل بالجدوى أو الفائدة المقابلة، إذ إن ما يصرف من هذه المبالغ لا يقابله أي أداء حكومي أو تشريعي أو رئاسي يرتقي إلى المستوى المطلوب.
إن استمرار العملية السياسية بهذا النظام السياسي وهذه الصيغة المشوهة حيث تعدد الرئاسات وتعاظم النفقات دون مردود حقيقي أصبح يشكل خطرًا على الاستقرار الاجتماعي والثقة الشعبية بالدولة. فالناس لم يعودوا يطالبون بالكمال بل إنهم يطالبون بالحد الأدنى من الأداء والمحاسبة والعدالة. وإذا ما بقيت الرئاسات الثلاث تستهلك المال العام دون أن تترجمه إلى قرارات تنموية صحيحة أو خدمات يلمسها المواطن ويراها أمام عينه، فإن فجوة الثقة سوف تكبر وستتآكل شرعية النظام أكثر. وإن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالمشكلة ثم التحرك نحو معالجتها. وهذا يتطلب أن تكون هناك قرارات لتقليص الامتيازات ووضع حد لتضخم المناصب ويجب أن تكون هناك شفافية على مصاريف الدولة. فالتعددية التي أصبحت عبأً على هذا الشعب يجب أن تكون مفردات لنظام ديمقراطي صحيح.