مَن يتذكّر سكوت ريتر، المفتش الأشهر عن أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ والفاضح الأكبر لأكاذيب الإدارة الأمريكية حول الملفّ، وكيف صارت مهاداً لاجتياح العراق وصناعة «عاصفة الصحراء» وعواقبها الكارثية؛ والمُراجِع الأبرز للذات أوّلاً، ثمّ لسنوات وسنوات من صناعة الأباطيل والأضاليل بصدد العراق وإيران فالشرق الأوسط طولاً وعرضاً، مقابل السكوت عن كلّ هذه الملفات حين تتصل بدولة الاحتلال الإسرائيلي؟ أو، في صياغات أخرى لفحوى الأسئلة إياها: لماذا يصحّ استذكار ريتر في هذه الأيام بالذات: مفاوضات فيينا المتعثرة، حول البرنامج النووي الإيراني؛ والاستقصاءات المتعاقبة بصدد استحقاقات دستورية، مركزية وهيكلية، في العراق؛ والتسخين على جبهة أوكرانيا بين أمريكا والحلف الأطلسي من جهة، وروسيا (بانخراط غير تامّ، حتى الساعة، مع الصين) من جهة ثانية؟
سبب أوّل يسوّغ هذه العودة إلى ريتر، هو سلسلة شهادات بليغة بقدر ما هي إشكالية، حول هذه الملفات وسواها؛ دوّنها الرجل في مناسبات عديدة، لعلّ أشدّها وضوحاً من حيث التوثيق تلك الفصول الشاهدة في عدد من مؤلفاته ذات الصلة: «نهاية اللعبة: حلّ مشكلة العراق ـ مرّة وإلى الأبد» 1999؛ «سرّي عراق: القصّة المكتومة عن مؤامرة الاستخبارات الأمريكية» 2005؛ و«هدف إيران: الحقيقة عن خطط الحكومة الأمريكية لتغيير النظام» 2006؛ وكذلك الكتاب الأحدث والأوسع نطاقاً «الملك العقرب: اعتناق أمريكا الانتحاري للأسلحة النووية من روزفلت إلى ترامب» 2020. سبب ثانٍ هو أنّ ريتر اتخذ، بعد إنهاء مهامه في تفتيش العراق واضمحلال الشخصية التي قُدّم بها في الإعلام الأمريكي وتمزج بين رامبو المارينز وشرلوك هولمز التحقيق، مال عموماً إلى معارضة غالبية سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه الشرق الأوسط. وبالطبع، لم تتجرّد معارضاته من نزوع التغريد خارج السرب على مبدأ خالفْ تُعرف، وكذلك محاولة الاقتداء بنجوم التحقيق الصحافي (سيمور هيرش في المثال الأبرز، والموقف من الهجمات الكيميائية التي استهدفت الغوطة وخان شيخون في سوريا).
حزمة ثالثة من الأسباب هي أنّ ما يقوله ريتر اليوم عن أجواء الحرب المتصاعدة على الجبهة الأوكرانية تحمل الكثير من المغزى، وتقترح العديد من التأويلات، حول طبائع التسخين من جانب الإدارة الأمريكية تحديداً؛ وما إذا كان النسق العام يعيد إنتاج مناخات مماثلة لجأ إلى تصنيعها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب سنة 1990، والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن سنة 2003، قبيل غزو العراق في الحالتين. المرء هنا، في أخذ مقترحات ريتر على محمل التصديق أو التشكيك، يتوجب أن يتجاوز شخصية المفتش الرامبوي/ الهولمزوي، إلى الموظف (رفيع المسؤوليات أحياناً) الذي عمل ضابطاً في المارينز خلال 7 سنوات، ومفتشاً في الاتحاد السوفييتي خلال تطبيق معاهدة القوات النووية متوسطة المدىINFK سنوات 1991-1998، وعضواً في أركان الجنرال نورمان شوارزكوف أثناء حرب الخليج. وبهذا المعنى يجوز فيه اعتماد النصح العتيق الصائب: إسألْ مَن كان بها خبيراً، في تفاصيل عديدة ليس أقلها أهمية حكاية تلفيق المخاطر وتصنيع الأوهام وتضخيم المخاوف في التهيئة للحرب.
وهكذا، بادر جون راشيل، مدير «مشروع عوائد السلام» الأمريكي، إلى إجراء حوار مسهب مع ريتر، مؤخراً، وطرح عليه عدداً من الأسئلة التي تغطي الراهن في العلاقات الدولية وموقع الولايات المتحدة وأمراض الديمقراطية الأمريكية؛ ولكنها الأسئلة التي تذهب أبعد من هذه المحاور إلى العديد من الجوانب الجوهرية التي طبعت، وما تزال، النظام السياسي العالمي الراهن والموروث معاً، ومعادلات القوى العظمى على أصعدة شاملة. الهاجس الأول كان «ساعة القيامة» النووية، وهل يتوجب أن تدقّ قبل 100 ثانية كما يقول العلماء؛ حيث أجاب ريتر بأنّ العقيدة العسكرية الأمريكية لا تفترض خيار استخدام الأسلحة النووية بقدر ما تعتبره فعلاً منفصلاً أعلى، أو أبعد، من المهمة العسكرية الموضوعة قيد التنفيذ؛ وهذا لا يعني أنّ خطر نزاع نووي ليس فعلياً، أو أنّ على العالم ألا يقلق.
بذلك فإنّ الحديث عن ضبط «ساعة القيامة» ليس مهماً، لأنه إذا اتُخذ قرار استخدام الأسلحة النووية فهذا يعني أننا فشلنا، وأننا في الساعة صفر، وبالتالي لن تكون المهلة أكثر من ثانية واحدة قبيل اندثار البشرية. والأرجح أنّ نبرة التهويل الدرامي في تشخيص ريتر لا تنطلق من فراغ، قياساً على ذهنية الرجل ومحاكمته لموازين القوى العظمى وعتادها النووي تحديداً؛ لأنه في إجابة تالية حول علاقات الشدّ والجذب بين أمريكا وروسيا والصين، مثلاً، يرى أنّ الثلاثة انخرطوا مراراً في تنويعات على «اللعبة الكبرى» ذاتها، التي تعتمد الجبروت العسكري وسيلة لاكتساب السيطرة على، وتأمين، الأهداف التي تدخل تحت تصنيف المصالح القومية العليا.
ويسأل راشيل عن عنصر الإفساد الذي طرأ على فترة علاقات الوفاق بين واشنطن وموسكو في أعقاب بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف، فيساجل ريتر بأنّ الولايات المتحدة لم تساند غورباتشوف عملياً، بل قد تكون أسهمت في تقويض مشروعه، لأنه أرادت أن تتحوّل السلطة هناك على غرار بوريس يلتسين الضعيف، أو دمتري مدفيديف (الذي كان المفضّل عند الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، مثلاً). فكان أن جوبهت بطموحات فلاديمير بوتين إلى روسيا قوّة عظمى متجددة، وإمبراطورية محاصِصة صانعة للقطبية، وهيمنة تمزج بين مافيا المال والأعمال والغاز والنفط وبين ضمّ جزيرة القرم وغزو سوريا ونشر ميليشيات «فاغنر» حيثما اقتضت شروط «اللعبة الكبرى» ذاتها. وخلاصة القول، في أعمال الشدّ والجذب، هي التالية حسب ريتر: «الجشع يحبّ الفراغ، والبشر باتوا جشعين أكثر فأكثر، وهذا أحد وجوه القول إنك إذا لم تنشر قوّة كافية للدفاع عن نفسك، فإنّ سواك سوف يستفيد من هذه الفرصة»؛ ولا جديد، بالطبع، في ما يستذكره من أنّ أمريكا وروسيا والصين، بعد فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليابان، استخدمت الجبروت العسكري لحيازة مكاسب جيو ـ سياسية على حساب الآخرين.
والحال أنّ الوقفة الراهنة عند استنتاجات ريتر تبيح استذكار نظائرها لدى الرجل نفسه، ساعة استقال من المهامّ الرامبوية/ الهولمزوية، وأعلن جملة أباطيل كانت من تصنيع إدارات أمريكية متعاقبة بعد قبل «عاصفة الصحراء» وبعدها، في التمهيد لغزو البلد:) لا توجد رابطة بين صدام حسين و«القاعدة»؛) إمكانيات العراق الكيميائية والبيولوجية والنووية دُمّرت في السنوات التي أعقبت حرب الخليج؛) المراقبة عن طريق الأقمار الصناعية كانت، وتبقى، قادرة على كشف أيّ مراكز جديدة لإنتاج الأسلحة في العراق؛) الحصار منع العراق من الحصول على المواد المكوّنة لصنع الأسلحة؛) فرض مبدأ «تغيير النظام» بالقوّة لن يجلب الديمقراطية للعراق؛ و) عواقب حرب أمريكا على العراق خطيرة للغاية على الشرق الأوسط بأسره.
وفي كلّ حال، وكما اتضح لاحقاً بأقصى جلاء، كانت إدارة بوش الابن عازمة على غزو العراق، عاد المفتشون أم لم يعودوا، وجرى تجريد البلد من السلاح أم لا. كان سيد البيت الأبيض في حاجة إلى تلك المغامرة العسكرية لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته الأولى ومنحها المضمون الذي شرعت تبحث عنه بعد مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وبالتالي صناعة ـ وليس فقط تقوية ـ حظوظه للفوز بولاية ثانية. فما الذي اتضح من خطأ في تقديرات ريتر تلك؟ وأياً كانت مغامرات بوتين وسياساته الإمبراطورية وعربدته الراهنة في سوريا والقرم وليبيا ومالي ومدغشقر وفنزويلا والموزامبيق، أو المقبلة في تخوم أوكرانيا… كم من سكوت ريتر تحتاج الإنسانية في سبيل افتضاح الأباطيل الأمريكية؟
لا تبدو المسافات بين الدول بعيدة كما تبدو على الخريطة الجغرافية، فطلقة مدفع في بلد قد ترد عليها طلقة في بلد يبعد عنها آلاف الكيلومترات، وهو ما يُخشى حدوثه في ملف أزمة أوكرانيا وصداها في الشرق الأوسط بعد تصريحات جنرال أميركي بهذا الخصوص.
وفي جلسة استماع للجنة القوات المسلحة بالكونجرس بشأن ترشيحه لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأميركية، اعتبر الجنرال إريك كوريلا أن “غزو روسيا لأوكرانيا سيؤدي إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا“.
وعلى هذا، قال إنه في حين تضع واشنطن “المنافسة الاستراتيجية” مع بكين وموسكو أولوية قصوى، فإن ذلك يعني أيضا أن “نظل منخرطين في الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا“.
وأوضح كوريلا أن روسيا تمتلك قواعد عسكرية وقوات في سوريا، و”إذا غزت روسيا أوكرانيا، فلن تترد في لعب دور المفسد في سوريا أيضا“.
وفي تعليقه على هذه التحذيرات، يقول الباحث زياد سنكري، لموقع “سكاي نيوز عربية” إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يسعى لتصحيح تبعات انهيار الاتحاد السوفييتي، وأوكرانيا هي المدخل لتظهر بلاده مجددا كـ”قطب عالمي وإنهاء تهميشها”، وفي نفس الوقت تسعى واشنطن لتصحيح صورتها بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان.
وتوقع السنكري بأنه في حال نفذت واشنطن تهديداتها بفرض عقوبات اقتصادية وعزل روسيا عن النظام المصرفي العالمي وعقوبات تطال الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والنخبة الحاكمة فإن القوات الأميركية في سوريا قد تتعرض لمخاطر؛ لأن سوريا واقعة تحت الهيمنة العسكرية الروسية، ويطال التهديد أيضا الوجود الأميركي في العراق لوجود ميليشيات هناك تابعة لإيران، وقد يقوم “شبه تفاهم روسي إيراني لإلحاق الأذى بالأمريكيين “.
ولم يستبعد الباحث زياد سنكري أن تصل موجات هذا الاضطراب إلى ليبيا التي يوجد بها قوات “فاغنر” الروسية، وعلى مرمى حجر من السواحل الأوروبية، ويبقى التعويل بأن الحلول الدبلوماسية هي المخرج دون خاسر أو رابح.
ويرى الباحث في التاريخ الأميركي، كامل الزغول، أن تصريحات كوريلا تأتي من خبرته في الشرق الأوسط؛ حيث عمل كرئيس أركان القيادة الوسطى المركزية الأميركية خلال فترتي حكم باراك أوباما ودونالد ترامب.
وتقديرات كوريلا لها أسباب، حسبما يوضح الزغول في حديثه لـ”سكاي نيوز عربية”، ومنها “نقل بعض واجبات الأسطول السادس من أفغانستان إلى القيادة الوسطى في الشرق الأوسط“.
والثاني، هو أن التماس مع الروس في أوكرانيا جزء من كل، حيث تنفذ واشنطن استراتيجيتها في كل العالم، بدليل أنها أعادت هيكلة قواتها في الشرق الأوسط وإفريقيا، والسبب الثالث، هو رسالة تهديد لروسيا في سوريا، الملف المؤجل، والذي بإمكان واشنطن أن “تقلب الأوراق” في سوريا، وتكبد موسكو خسائر فادحة.
ويخلص الزغول إلى أن واشنطن بدأت تعتمد على جنرالات لديهم فكر شامل يربط بين المسائل الجيوسياسية بين الأقاليم، ولذلك تم ترشيح كوريلا الذي وصفه قائد القيادة المركزية السابق جوزيف فوتيل بأنه “مفكر استراتيجي له رؤية تمكنه من رؤية الصورة بكل تفاصيلها“.
يأتي هذا فيما تستمر الجهود الدبلوماسية لحل أزمة أوكرانيا، حيث قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد لقائه فلاديمير بوتن في روسيا إنه يرى حلولا “ملموسة”، وقد تلقى تأكيدات من بوتن بأنه لن يكون هناك مزيد من التصعيد.
وحشدت روسيا 100 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، وهو ما أثار اتهامات من الولايات المتحدة ودول أوروبية بأنها تستعد لغزوها، وهو ما تنفيه موسكو.
لا يمكن فهم الأزمة الأوكرانية التي تهدد بنشوب حرب عالمية بين روسيا الاتحادية من جهة وأمريكا وحلف شمال الأطلنطي من جهة أخرى، وأثرها على المنطقة العربية إلا من خلال ثلاثة محاور رئيسية: المحور الأول يتمثل في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجية لطبيعة الصراع وشكل التحالفات في القرن الحادي والعشرين، والمحور الثاني هو وسائل الضغط الأمريكية على الحكومات العربية لتشكيل جديد للأمن يتماشى مع رؤيتها الاستراتيجية، والمحور الثالث يتمثل في وضع اقتصادي قد يفاقم الأزمة الاقتصادية بالبلاد العربية في حال نشوب الحرب بين القوى الكبرى والذي سيدفع العالم نحو وضع اقتصادي كارثي.
المحور الأول
المحور الأول، المتمثل في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لطبيعة الصراع العالمي في القرن الحادي والعشرين هذا تكفل بشرحه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق “زبغنيو بريجينسكي”، الذي ألف كتاباً بعنوان “رقعة الشطرنج الكبرى” حدد فيه الرؤية الأمريكية التي تتمثل في محاصرة النفوذ المتنامي للقوتين الروسية والصينية، واقترحَ فيه تشكيل العالم على هيئة مجلس إدارة عالمي يتألف من أمريكا والمتحالفين معها حول العالم، ومن هنا نستطيع فهم تخوُّف روسيا التي ترى في الاستراتيجية الأمريكية تحجيماً وتقزيماً لدور مُتنامٍ لها تريد من خلاله العودة لمكانتها التي فقدتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ولكن أمريكا كانت أسرع في تنفيذ استراتيجيتها على الأرض وأخذت تتمدد هي وحلفاؤها على الأرض لمحاصرة روسيا، واستطاعت الالتفاف على الاتفاقيات الأمنية مع روسيا وضمت في عضوية حلف شمال الأطلنطي دولاً في أوروبا الشرقية، وهو ما أزعج الروس وأبدوا تبرماً مكتوماً.
الأوضاع بدأت تأخذ شكل الحصار الاستراتيجي ليس في أوروبا فقط، ولكن في آسيا والشرق الأوسط، حيث أرادت أمريكا حصاراً ممتداً من أوكرانيا إلى تركيا ودول آسيا الوسطى وإيران وباكستان؛ لمنع أي تمدد روسي، وقد بدا أن الحصار يؤتي مفعوله حتى فوجئ العالم بردِّ فعل روسي عنيف تحت مظلة السلاح.
في كازاخستان تدخلت روسيا لدعم النظام هناك بقوة السلاح؛ لكسر الحصار الأمريكي الذي أراد تغيير النظام هناك على شاكلة ما حدث في أوكرانيا عبر الثورات الملونة ومن قبلها في جورجيا، وكذلك التدخل العسكري لدعم النظام السوري ومنع سقوطه وتثبيت أوضاعه العسكرية في سوريا؛ لضمان كسر الحصار الأمريكي للقوة الروسية، ثم تأتى الأزمة الأوكرانية لتؤكد روسيا بقوة السلاح والتهديد بحرب كبرى مع الغرب، أن الحصار الاستراتيجي الأمريكي الغربي لم يعد مقبولاً مع عودة روسيا القوية للعب دورها في ترتيبات الأمن حول العالم.
المحور الثاني
يكمن المحور الثاني في وسائل تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية عبر دعم الثورات الشعبية لحصار روسيا، ففي العام 2004 قامت في أوكرانيا أولى الثورات التي عُرفت بالثورات الملونة والتي دعمتها أمريكا لتغيير النظام السياسي هناك، وعلى الرغم من المقاومة الروسية لتلك الثورة في أوكرانيا فإن الثورة نجحت في النهاية وتم تولية نظام موالٍ للغرب، وهو ما اعتبرته روسيا هزيمة استراتيجية لها تتيح لأمريكا والغرب نفوذاً على حدودها، ولهذا دعمت روسيا الانفصاليين في شرق أوكرانيا؛ لإيجاد وضع يتيح لها التحرك إذا لزم الأمر عسكرياً.
وهو ما جعلها تضم شبه جزيرة القرم عسكرياً من أوكرانيا؛ حفاظاً على مصالحها ولضمان موطئ قدم استراتيجي لقوتها العسكرية البحرية النووية بأهم الموانئ العسكرية في شبه جزيرة القرم.
في الوقت نفسه قامت بحشد قوتها العسكرية الضخمة المسلحة بأحدث التكنولوجيا في سوريا؛ لمنع نظام الأسد من السقوط، ولضمان عدم تكرار السيناريو الأمريكي الأوكراني في سوريا، لأن روسيا رأت في ثورات “الربيع العربي” تكراراً للثورات الملونة التي كان الهدف من دعمها محاصرة روسيا استراتيجياً عبر الإتيان بحكومات جديدة موالية لأمريكا تساعدها في محاصرة النفوذ الروسي.
المحور الثالث
في حالة نشوب الحرب بسبب الأزمة الأوكرانية، فإن أزمة اقتصادية عالمية ستحدث وستؤثر على جميع دول العالم، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة كالبترول والغاز، وكذلك توقف سلاسل التوريد للقمح من روسيا وأوكرانيا تحديداً اللتين تحتكران وحدهما 25% من صادرات القمح في العالم، مما ينذر بارتفاع أسعار الغذاء، وما يتبع ذلك من اضطرابات مجتمعية حول العالم ربما تتحول لصراعات مسلحة بين الدول.
المنطقة العربية في قلب الصراع
وفقاً للمحاور الثلاثة نجد أن الدول العربية تقع في قلب الصراع الاستراتيجي بين أمريكا والغرب وروسيا، وأنها تمثل أهمية كبرى في الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين، حيث إن أدوار تركيا وإيران (في حال الاتفاق مع الرؤية الأمريكية) وباكستان وإسرائيل ضمانٌ للأمن في المنطقة العربية بما يسمح بتشكيل حزام أمني حول المنطقة العربية؛ لمنع التمدد الروسي فيها.
ولهذا ليس غريباً أن نجد لتركيا دوراً عسكرياً بالدول العربية في سوريا والعراق ودول الخليج يتنامى بمرور الوقت، وكذلك إسرائيل، العدو التاريخي للعرب الذي أصبح له دور أمني واضح في المنطقة العربية، ويبقى الدَّوْران الإيراني والباكستاني غير مكتملَي الملامح في انتظار ما تسفر عنه الأوضاع العالمية والإقليمية.
هذا في الوقت الذي تكافح فيه روسيا بقوتها العسكرية لضمان وجود أمني في المنطقة العربية عبر قواعدها العسكرية والبحرية على الساحل السوري المطل على البحر المتوسط، وكذلك تدخلها الأمني في الشأن الليبي عبر شركة “فاغنر” العسكرية الخاصة، وكذلك تقوية ومساندة النظام السياسي في الجزائر عسكرياً وسياسياً، ثم محاولاتها لضمان وجود بحري بقاعدة عسكرية تطل على ساحل البحر الأحمر في السودان.
كل هذا الزخم من الصراع الدولي على المنطقة العربية يتم تحت مظلة تداعيات ثورات الربيع العربي التي دعمتها أمريكا في البداية، وقاومتها روسيا مثلما حدث في سوريا، ثورات الربيع التي تحولت لشتاء عربي قارس أتى بأوضاع سياسية مهترئة وهشة وحروب أهلية ولم تعكس آمال شعوب المنطقة في الحرية والعدالة وأوضاع اقتصادية جيدة.
بل عبّرت عن صراع استراتيجي محموم بين أمريكا وروسيا لمنع الانفراد بمعادلة القوة في المنطقة العربية التي في حالة نشوب الحرب بأوكرانيا ستعاني دولها من أزمة اقتصادية كبيرة تفاقم الأوضاع الاقتصادية الصعبة أصلاً، مما ينذر بوقوع اضطرابات مجتمعية وربما حروب تهدد الأمن وربما تطيح باستقلال بعض الدول، فبمجرد توقف توريد القمح الروسي والأوكراني سيعد ذلك بمثابة كارثة لبلد مثل مصر، التي تستورد 85% من طلباتها منهما!
حيث اشترت في عام 2020 ما مقداره 3 ملايين طن قمح من أوكرانيا، ومن روسيا 8.9 مليون طن، وكذلك في سوريا، فضلاً عن أن القواعد العسكرية لأمريكا وروسيا في الدول العربية ستصبح أهدافاً عسكرية مشروعة للقوتين، وهذا الوضع سيغري دولاً مثل إيران وإثيوبيا لتهديد الأمن العربي بالكامل.
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي – مواقع التواصل
أوكرانيا.. مثلت منذ عام 2004، هاجساً أمنياً للدول العربية خاصةً مصر، ولكن تلك الدول لم تتحرك لإيجاد نظام أمني عربي موحد يمنع السقوط، وهو ما جعل أوكرانيا بمثابة ترمومتر يؤشر على مدى سخونة الأوضاع في المنطقة العربية، التي لم تحتَط اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لثورات وصفتها بالمؤامرة الدولية دون وضع الاعتبار لمتطلبات شعوبها التي كانت تعاني من تردي الأوضاع المعيشية وتفشي البطالة التي تعتبر لدينا الأعلى عالمياً.
يبدو أن الأزمة الأوكرانية ستلقى بتداعياتها على المنطقة لسنوات قادمة وحتى قيام نظام عالمي جديد، ولهذا على الدول العربية- خاصةً الكبرى منها مصر والسعودية وسوريا والعراق والجزائر- أن تبحث وتجد حلاً عربياً لترتيبات الأمن بما يضمن لها وجوداً في عالم يعاد تشكيله وإلا فلا يتحدث أحد مستنكراً تنامي الدور الإيراني والتركي والإسرائيلي في المنطقة العربية. فالفرصة ما زالت قائمة لترتيبات أمن عربي وسط ركام الأزمة الأوكرانية.