حينما كُلّف الشريف فيصل الأول بن حسين بن علي الهاشمي، ثالث أبناء شريف مكة الحسين بن علي الهاشمي، بتولي مملكة العراق التي تأسست على خلفية اتفاقية سايكس بيكو، وإثر تداعيات الثورة العربية الكبرى، كان يراود الشريف حسين بن علي والد الأمير فيصل طموح العائلات المالكة العربية في المنطقة، لتولي زعامة دولة العرب، ونقل نظام الخلافة الذي انهار في إسطنبول إلى إحدى العائلات العربية المتنافسة، وهي: العائلة السعودية في نجد والحجاز كونها الأسرة الحاكمة في الأراضي المقدسة الإسلامية مكة والمدينة، والعائلة الهاشمية زعيمة الثورة العربية الكبرى في شمال الجزيرة وبلاد الشام والعراق، والعائلة الحاكمة من سلالة محمد علي في مصر، ولكون الإنكليز أيضاً لم يجدوا شخصية في كل العراق تتبوأ هذا المكان، لاعتبارات كثيرة ربما في مقدمتها الصراعات الداخلية بين الشيوخ والأعيان وحملات التسقيط والتشهير فيما بينهم أمام البريطانيين دفعهم لترشيح فيصل الأول ملكاً على العراق، وأسباب كثيرة أخرى.
عموماً نجحت بريطانيا في إقامة مملكة جديدة في الشرق الأوسط بعد إقناع أعيان وشيوخ ولايتين، هما: ولاية بغداد وولاية البصرة، بينما استمرت بالتفاوض مع ولاية الموصل التي كانت تضم معظم كوردستان الجنوبية الحالية، والتي وافق غالبية سكانها من الكورد على الانضمام للملكة الجديدة بشرط تلبية مطالبهم السياسية والثقافية، وبناءً على ذلك باشرت بريطانيا وطاقم من رجالات الدولة في الولايات الثلاث ببناء مؤسسات المملكة الجديدة على النمط البريطاني، متأملة أن تكون حكومة الكيان الجديد مهتمة بتطوير نوعية الإنسان وتأهيله لإشغال تلك المؤسسات، ورغم الأخطاء والهفوات الكثيرة نجح البريطانيون والتاج الهاشمي ورجال الدولة العراقية الحديثة في إنشاء مؤسسات تشريعية وتنفيذية تحت مضلة التاج الملكي، تمتعت فيها شعوب الولايات الثلاث بنمط مخالف جداً للنظام العصملي، ولولا بعض المجموعات التي التفت حول الملك غازي وعبد الإله وتطلعاتهما، إضافةً إلى بدايات تبلور توجهات قومية ويسارية قننت فكرة المواطنة في بلد متعدد المكونات، لما انحدرت الأمور حتى تهاوى كل شيء مع ظهور أوّلى الغزوات السياسية أو الانقلابات التي أسقطت المملكة العراقية، وأَبادتْ خلال ساعات العائلة الهاشمية بعد استسلامها، لتبدأ حقبة جمهوريات الانقلابات التي استمرت تنصيب الحاكم المدني الأمريكي رئيساً لجمهورية العراق بديلاً لفيلسوف الانقلابات، ومن ثمّ إجراء الانتخابات العامة بعد عشرات السنين من الحكم الشمولي والأمية الديمقراطية والسياسية لدى عموم الشعب، ومن ثمّ تكلّيف مجاميع من الهاربين واللاجئين ممن تركوا البلاد تتضرع جوعاً وعبودية بمهام من قبل الحاكم المدني الأمريكي، وهم في غالبيتهم مغامرون طامعون بالسلطة والمال لا يرتقون إلى مستوى رجال دولة.
وعبر ما يزيد عن ستين عاماً عاشت الدولة العراقية أكثر مراحلها تخلفاً وانحداراً، مع وجود مساحات هنا وهناك أنجزها المخلصون من أبناء وبنات العراق والذين أُوهموا بأن من يقودهم إنما يخدم الوطن ويناضل من أجله! ثلاث جمهوريات انقلابية مزّقت البلاد وأرجعتها مئات السنين إلى الوراء، وأضاعت عشرات أخرى من مستقبلها إن لم تكن أكثر، انقلابيات خارج إطار القانون وتحت سقف ثقافة البداوة والغزو، استولت على السلطة والمال، وسبت العباد والبلاد وحولتهم إلى قطعان من العبيد تحت مقصلة الإرهاب تارةً باسم القومية وتارة أخرى باسم الله ورسالته الخالدة، فأنتجت أجيالاً من الكسيحين وعياً وفكراً وسلوكاً، ومجتمعات ساذجة مسطحة تحكمها الخرافة وثرثرات دواوين الشيوخ والأغوات وخطباء الجوامع ومخاتير القرى والأحياء، الذين ما برحوا يمضغون ما ورثوه عن أجدادهم من خزعبلات وأعراف التحريم والتحليل.
بعد أن أحالت جمهوريات الزعيم وعارف والبكر- صدام الانقلابية، بلاداً كانت مهداً لولادة حضارات الحرف والقلم والساعة، إلى خرائب ومآسي واغتيالات وأحزاب ميليشاوية، وأجيال من المتوحدين فكرياً وسياسياً، وقوافل من المتخلفين واللصوص والعصابات من خريجي مدارس ثقافة الانقلاب والميليشيات، بعد أن أحرقوا كوردستان بانفالاتهم القذرة وأسلحتهم الكيماوية البشعة، ختموها على طريقة الجاهليين الأوائل باستقدام جيوش العالم على شعوبهم، لكي تنتهي تلك الحقبة بالحواسم المخزية، وتبدأ حقبة الجيل الثاني والثالث من تلاميذ تلك المدارس، التي مررها برايمر وشركائه لإقامة نظام مسخ بلبوس ديمقراطي ومؤسسات تعشش فيها الخرافات الغيبية وثقافة العبودية والتوحد السياسي، حتى غدت البلاد مرتع للعصابات السياسية بمؤسسات لا تمتلك إلا عناوينها ومجموعة من الشعارات الرنانة، بينما ينخر الفساد وحيتانه في جسد البلاد التي صادرها اللصوص باسم الرب والدين والمذهب والعشيرة، فتحولت وارثة الحضارات والممالك والإمبراطوريات إلى إمارات ميليشاوية لا يُعرف فيها الحق من الباطل، إن تُعارضها فأنت كافر وإن تحايدها فأنت عبد وإن تؤيدها فأنت فردٌ في قطيع، والذين أسقطوا آخر جمهوريات الانقلابات حلفاء لأمراء تلك الإمارات.