أثارت الأحداث في سوريا المجاورة للعراق الحديث مجدداً عن ضرورات الإصلاح في البلاد التي عاشت منذ أكثر من عقدين تأسيس لنظام سياسي جديد لها.
هذا النظام الذي عرّفه الدستور بأنه (دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي “برلماني” ديمقراطي) يؤشّر عليه ملاحظات عدة منها المتعلق بالجانب السياسي ومنها المتعلق بالجانب الاقتصادي وانعكاساتهما على بقية مفاصل الحياة.
فالنظام على المستوى السياسي لازال يعاني من مشاكل حقيقية في التطبيق في ظل محاصصة -طائفية عرقية- جرى التوافق عليها عرفاً، أما الاقتصاد فإن الاقتصادي العراقي لم يعرف شكلاً منتظماً فهو رأسمالي ليبرالي بقواعد اشتراكية، ومن هاتين القاعدتين نشأ واقع اجتماعي ثقافي مضطرب تتصارع فيه القوى الليبرالية العلمانية مع القبلية العشائرية ما نتج عنه مجتمع تغيب عنه الهوية الواحدة المحددة الواضحة.
وإذا ما وضعنا كل ذلك في سياق التوتر الأمني فلك أن تتخيّل الشكل الناتج من هذه المعادلة.
فالعراق منذ العام 2003 عاش الاحتلال والحرب الطائفية والاحتلال الداعشي لأجزاء كبيرة من محافظات الغرب والشمال الغربي ليستمر مشهد التحرير قرابة الأربع سنوات طوال قدم فيها العراق المئات من أبناءه وخسر فيها مليارات الدولارات.
أمام هذا المشهد وفي ظل الحراك السوري الداخلي بات العديد من المراقبين يثيرون المخاوف من إمتداد رغبة التغيير من سوريا إلى الأراضي العراقية، لاسيما وأن التغيير -كما شاهده الناس واعتقدوا- كان سريعاً وغير مكلف، بالتالي فهو يعتقد أن الأمور قد تحسم في إزاحة النظام القائم في العراق والشروع بتأسيس نظام جديد في (10 أيام).
طبعاً هذه الصورة الخيالية غير موجودة على أرض الواقع ولا يمكن تحقيقها وفق هذا التصوّر، فالتغيير السوري ترجع جذوره إلى العام 2011، كما أن التحرّك الأخير للفصائل التي أسقطت نظام الأسد سبقه أستعداداً قارب الخمس سنوات ما بين التجهيز والتدريب، زد على ذلك تباينا سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً بين الدولتين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتماثل فيه الحالتين.. لكن .. ولنضع خط تحت كلمة لكن..
من السذاجة بمكان الدفاع عن الواقع الموجود في العراق اليوم وإنكار ما لا يمكن إنكاره..
فالواقع يشير لمشاكل عدة قدمنا لها في هذا المقال وهنا الآلاف من الدراسات التي شخّصت الواقع بما لا يمكن تجاوزه أو إغفاله.
عليه فإن تبنّي نهج الإنكار والتغافل قد يكون أخطر من تلك السيناريوهات والمخططات التي تتحدث عن التغيير القادم في العراق وإن كانت برامج أو خطط ساذجة، كونه الخطوة التي ستفضي بالنتيجة لدفع الناس لتبني تلك الخطط والبرامج وتأييدها وستسهم في تعميق الفجوة بين النظام السياسي والشعب الساخط على هذا النظام.
وبالمقابل فإن محاولة تبنّي خطط الإصلاح من قبل ذات القوى والشخصيات التي تتحمّل جزءاً كبيراً من مسؤولية ما آل إليه الوضع في العراق لن يفضي لشيء، بل قد يفاقم الأمر. كما أنه ليس بالأمر الجديد إذ سبقته العديد من المبادرات والمواثيق التي أبرمتها ذات الوجوه الحالية ولم تنتهِ لشيء يذكر على أرض الواقع، كما في ميثاق الشرف الوطني ومؤتمرات المصالحة الوطنية بنسخها المتعددة المتكررة.
إن أي حركة لإصلاح واقع الحال في العراق اليوم لابد أن يسبقها حواراً وطنياً جديّاً يشارك فيه الجميع لاسيما الشباب الذي يعاني اليوم من غياب دوره في العمل السياسي كذلك محاولة إشراك المنظمات الدولية والإقليمية في الحوار الوطني أمراً يعطي للحوار عمقاً وجديّة أكثر.
وقبلها لابد للحوار من أن ينطلق من اعتبار القوى جميعها متساوية على قدم سواء لا أفضلية لإحداها على الأخرى.
من ثمّ فالحوار الوطني بحاجة لقواعد جديدة تنأى فيها القوى السياسية بنفسها عن توجيهها أو السيطرة على حيثياتها بما يهيّئ الأجواء لحالة جديدة قوامها الرغبة في معالجة مشاكل الواقع والتأسيس لمشهد مستقبلي جديد قائم على مرتكزات وطنية تتجاوز التعقيدات التي صنعها تغيير ما بعد العام 2003 وتعالج مشاكل السنوات التي سبقته.
إن استقراء الواقع والشروع بخطوات الإصلاح قبل وقوع المحظور من علامات ذكاء المنظومة السياسية وفطنتها لتلافي إنزلاق البلاد إلى المجهول ودخولها في متاهات المواجهات الداخلية التي سأم الشعب منها. أما التعالي وإنكار ما لا يمكن إنكاره من تحديات ظاهره للعين داخل وخارج العراق فإنه عواقبه لن تكون محمودة ولن يظفر أي طرف منها بشيء.. فهل تكون الطبقة السياسية بمستوى الحدث أم تستمر بمشهد الناكر لحالة التغيير القادم حتى نصل لنقطة اللا عودة.