23 ديسمبر، 2024 6:35 ص

العراق… في انتظار الثورة الثقافية

العراق… في انتظار الثورة الثقافية

لم يعد من الصحيح الحديث عن ثورة تقليدية او انقلاب عسكري في العراق وهو يعيش أسوأ مراحل حياته التأريخية سياسة واقتصاداً واجتماعاً! فقد شهد العراق ثورات وانقلابات دموية وراح ضحيتها الآلاف وجرت وراءها، لأسباب سآتي الى التنويه عنها، كثيراً من الخراب والدمار، وراحت الاجيال تلعن الاخرى تارة، وتلعن نفسها تارة أخرى. وجاء عراق اليوم ليكلل ذلك الخراب والدمار في إنسانه عقلية ونفسية، وقيماً وعادات وسلوكيات ومواقف وطنية. لقد عاد العراق الى مئات السنين فكراً، متوحشاً في سلوكه ومتعطشاً للقتل والنهب والفساد، وأنانياً في مطامعه ناهيك عن غياب استعداده للاثرة والتضحية من أجل الآخرين.
لم يعد مجدياً استلام مجموعة، حتى من الابطال، مقاليد السلطة والقوة وقتل هذا وذبح ذاك، واعتقال زيد وسجن عمر. إنها دوامة انتقام وحمام دم، بعد أن أثخنت جراح وتعمقت خنادق العداء!
إن معالجة وضع العراق اليوم عملية تغوص في أعماق انسانه ومجتمعه وقراءة تاريخه في أساسياته وتطوره وثرواته وطبيعة انظمة حكمه وقادته وسياسييه واداراته العامة، وقبل هذا وذاك قيمه التربوية والاجتماعية وعاداته وتقاليده. إنها، باختصار شديد، ثقافته في مفهومها الشامل من معارف ومهارات وابداعات وقيم واخلاقيات وسلوكيات ومواقف.
نحن بحاجة الى اعادة تحديد مفاهيم الثقافة في عقول وقلوب الناس وفي جميع مجالات الحياة. فالثقافة ليست مقتصرة على ما تقوم به تقليدياً وزارة تتولى امور الاشراف والدعم لاعمال فنون تشكيلية أو اخرى ادبية او شعرية وما شابه. انها نظرة حضارية شاملة للسياسة والقضاء والدفاع والأمن والاقتصاد والابداع والتجديد والتطور والنظرة للحياة ومعناها. انها ثورة في العقول والقلوب والنفوس والرؤى الجمالية للحياة وحواسها.
أليست محبة الوطن والناس والسلام والتعلم والبناء والتقدم والتطور والتفوق ثقافة تخدم أمن وكرامة الانسان وحقوقه؟ أليس الإباء والعزة الانسانية ثقافة مطلوبة؟ إن الثقافة بهذا المعنى شيء آخر غير ذلك الذي إعتدناه تقليدياً. إنها بذور بناء مجتمع، فكراً ورغبات وقيماً وسلوكاً واستعداداً للعطاء والتضحية.
من هنا نحن بحاجة الى ثقافة ايمان روحي غير تلك المفرقة،
نحن بحاجة الى ثقافة دفاع وأمن تحفظ للانسان كرامته وتحافظ على طيب جيرته، نحن بحاجة الى ثقافة اقتصاد يعمل على تثاري المجتمع واطرافه وخلق قيم دون استهلاك ما في باطنه،
نحن بحاجة الى ثقافة زراعة منتجة تعمر الارض وتحافظ على الامن الغذائي وتسد رمق أبناء الشعب، نحن بحاجة الى ثقافة صناعة تقلل علينا اعتمادنا على الآخرين وتنمي ابداعنا، نحن بحاجة الى ثقافة تربية تزرع في رؤوسنا ونفوسنا وقلوبنا قيم ومهارات التعلم والانتاج والابداع وحب الآخر ونبذ التبعية والعمالة وتحريم الخيانة، نحن بحاجة الى ثقافة بيئية تحافظ على الطبيعة وصحة إنسانها وكنوز أرضها ومائها وهوائها.
نحن بحاجة الى ثقافة تعامل خارجي يحترم الآخرين في مصالحهم وتاريخهم وثقافتهم ويتثارى معهم سياسياً واقتصادياً وحضارياً، نحن بحاجة الى ثقافة نقل يحترم الزمن ويحافظ على حياة الانسان والبيئة، نحن بحاجة الى ثقافة اتصالات وتواصل تعزز انسانيتنا ولا تسرق الزمن منا عبثاً ومن أجل طرد الملل، نحن بحاجة الى ثقافة طبية وغذاء صحي ونشاط حيوي ونظارة في الحياة،
نحن بحاجة الى ثقافة حب الآخرين والشعور بهم وبرغبتتهم وحقوقهم، نحن بحاجة الى ثقافة العزة والكرامة من أجل حياة حرة أبية، نحن بحاجة الى ثقافة كلام ممتع ومفيد واستماع نافع يزيد.

بخلاصة وبساطة، ونحن نعيش حالات تفشي الامراض لا بل والأوبئة من سياسية واقتصادية واجتماعية واخلاقية وقيمية وضمور للمشاعر الوطنية وضعف للتضامن الانساني، فإننا بحاجة الى ثورة قيم ورؤى لا تهدر دماً ولا تزهق أرواحاً ولا تقصي أحداً ممن يحمل روح ثورة ثقافة الاصلاح والتقدم التي حددنا ملامحها ومهامها.
ان ثقافات العشائرية والطبقية والطائفية والعرقية العنصرية والمناطقية من ناحية، وثقافات السلب والنهب والابتزاز والرشاوى والغش والاحتيال والمحسوبية والمنسوبية والاتكالية والتكاسلية والقناعة السلبية والرضا بالوضاعة من ناحية اخرى، لا تعيننا على حياة حرة سعيدة وكريمة.
إننا نسعى من خلال ثورتنا الثقافية إلى تهذيب حياة انسان عراق جديد في قيمه وتطلعاته وسلوكه وجمالياته، لا يخجل ماضي وطنه الحضاري منه، ولا يخاف أبناؤه من مستقبله…