العراق: رحلة البحث عن الهوية الوطنية

العراق: رحلة البحث عن الهوية الوطنية

أما وقد شارفت على الستين عاما ومن قلب تجربتي الطويلة ، فقد عشت العراق بكل تناقضاته وتعقيداته. منذ أيامي كأستاذ في جامعة الكوفة الرسمية وجامعة الصدر الدينية قبل 2003، حيث كنت أتنقل بين قاعات التدريس المثقلة بالرقابة البعثية، إلى عملي كمستشار في رئاسة الوزراء وأمين عام للجنة الحوار والتوعية الدستورية في 2004، ثم مستشارًا سياسيًا وإعلاميًا في رئاسة الجمهورية، رأيت العراق يتشكل ويتفكك تحت وطأة تحولاته السياسية والاجتماعية. معرفتي الوثيقة بالمرجعية الدينية وقيادات النظام الحالي أتاحت لي أن أرى بوضوح كيف تتشابك الخطابات المجتمعية في بلد يفتقر إلى هوية وطنية جامعة.
 هذا المقال يروي قصة تلك الخطابات المتنوعة، التي تعكس انقسامات المجتمع العراقي وتؤكد غياب تلك الهوية التي طالما حلم بها العراقيون .
في العراق، يتجلى الخطاب المجتمعي في أصوات متعددة، كل منها يحمل رؤية خاصة للوطن.
*هناك من لا يزال يحن إلى النظام السابق، حيث يرى في صدام حسين والبعث رمزًا للاستقرار والقوة القومية* . هؤلاء، الذين يتركزون غالبًا في المحافظات الغربية، أو خارج العراق ينظرون إلى النظام الحالي كتكريس للتهميش الطائفي، وخطابهم مشبع بالرفض والحنين إلى ماضٍ يرونه مجيدًا. لكن هذا الحنين لا يقتصر على الماضي، بل يمتد إلى بعض العسكريين الذين خدموا في الجيش القديم، والذين يرون في النظام السابق انضباطًا افتقدوه في ظل الفوضى الحالية.
*وهذا الخطاب، رغم تراجع تأثيره، يظل صوتًا معارضًا يعيق بناء هوية وطنية موحدة، لأنه يرفض الاعتراف بشرعية النظام الجديد أو الاعتراف بالرأي الآخر* .
في المقابل، هناك جمهور آخر تشكل عبر الاستقطاب الطائفي، خاصة في المناطق الشيعية الجنوبية وبغداد. هؤلاء، الذين يُطلق عليهم أحيانًا “الجمهور الولائي”، تأثروا بمظلومية طائفية استغلتها إيران لتعزيز نفوذها. خطابهم يركز على الدفاع عن “حقوق الشيعة” والمقاومة ضد التأثيرات الغربية، ويرون النظام الحالي كإنجاز جزئي يحتاج إلى تعزيز نفوذهم. *بعض أفراد هذا الجمهور، خاصة في وحدات من الحشد الشعبي والمليشيات الشيعية، يدينون بالولاء لأجندات خارجية، مما يجعل خطابهم متعارضًا مع فكرة الهوية الوطنية العراقية، إذ يضعون ولاءً إقليميًا فوق الانتماء الوطني* .
هذا الانقسام الطائفي يعمق الهوة بين مكونات المجتمع، حيث يرى الآخرون في هذا الخطاب تهديدًا للوحدة الوطنية.
في قلب هذا التنوع، يبرز الجمهور الصدري، الذي بدأ كحركة مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، ثم تحول إلى قوة سياسية كبيرة أسهمت في تشكيل وانتاج كل الحكومات قبل أن ينسحب من العملية السياسية في 2022. *خطاب الصدريين يجمع بين القومية العراقية والهوية الشيعية، رافضًا التدخلات الخارجية سواء الأمريكية أو الإيرانية* . ويرون النظام الحالي فاسدًا وغير عادل، ويدعون إلى إصلاح جذري أو استبداله بنظام “الأغلبية السياسية”. وقد عزز انسحابهم من البرلمان خطابهم الاحتجاجي، لكنه أيضًا عكس عجزهم عن تقديم رؤية موحدة تجمع العراقيين، إذ يظل خطابهم محصورًا في قاعدتهم الشعبية دون أن يمتد إلى مكونات أخرى.
أما جمهور الأحزاب التقليدية، سواء الشيعية مثل الدعوة والمجلس الأعلى، أو الكردية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، فيتبنى خطابًا يدور حول المحاصصة والدفاع عن مصالح الحزب. *هذا الجمهور، الذي يستفيد من النظام الحالي، يرى فيه ضمانة لبقائه في السلطة، لكنه يواجه اتهامات بالفساد وسوء الإدارة* . بينما خطابهم غالبًا ما يكون ضد منافسيهم السياسيين، مما يعزز الانقسامات بدلاً من بناء هوية وطنية جامعة. في إقليم كردستان، يركز الخطاب على الحكم الذاتي وحقوق النفط، وهو خطاب يعزز الهوية الإثنية الكردية على حساب الهوية العراقية العامة.
 *هذا التركيز على المصالح الإقليمية يجعل من الصعب تخيل وحدة وطنية تجمع بين الأكراد وباقي العراقيين* .
في الوقت ذاته، يبرز الجمهور المدني والليبرالي، خاصة بين الشباب المتعلم في بغداد والبصرة، كصوت يطالب بدولة مدنية خالية من الطائفية والتدخل الديني. خطابهم، الذي تجلى في احتجاجات تشرين 2019، يرفض النظام الحالي كونه تكريسًا للسلطة الدينية والمحاصصة. لكنهم يعانون من ضعف التنظيم السياسي، مما يحد من قدرتهم على توحيد العراقيين تحت راية هوية وطنية علمانية. *هذا الخطاب، رغم طموحه، يظل نخبويًا إلى حد ما، بعيدًا عن الجماهير التي تقودها العشائر أو الأحزاب* .
العشائر، التي لا تزال تشكل قوة اجتماعية كبيرة، تضيف طبقة أخرى من التعقيد. خطابها يركز على المصالح العشائرية، سواء في الدفاع عن النفوذ الاجتماعي أو الاقتصادي. *تتأرجح العشائر بين دعم النظام الحالي إذا استفادت منه، والمعارضة إذا شعرت بالتهميش* .
 هذا الخطاب العشائري، رغم قوته المحلية، فهو يعيق تشكيل هوية وطنية، لأنه يعزز الانتماءات الفرعية على حساب الانتماء الوطني.
أما رجال الأعمال كونهم يشكلون قوة مالية ، سواء القدامى المرتبطين بالنظام السابق أو الجدد الذين برزوا بعد 2003، يتبنون خطابًا براغماتيًا يركز على المصالح الاقتصادية. فهم يدعمون النظام طالما يضمن أرباحهم، لكنهم يظلون بعيدين عن فكرة الهوية الوطنية، *إذ يرون العراق كسوق للاستثمار أكثر منه وطنًا موحدًا. هذا الخطاب المادي يعزز الانقسامات، حيث يرى الجمهور المدني في رجال الأعمال رمزًا للفساد* .
أما جمهور العسكر، بما في ذلك الجيش والشرطة، فيشكل تقاطعًا معقدًا للولاءات. بعضهم يتبنى خطابًا وطنيًا يركز على حماية الدولة، كما ظهر في الحرب ضد داعش، لكن آخرين يدينون بالولاء لأحزاب طائفية أو ميليشيات مرتبطة بأجندات خارجية.
*هذا التعدد في الولاءات يجعل خطاب العسكر منقسمًا، حيث يتراوح بين الدفاع عن النظام الحالي كمصدر للشرعية، والإحباط من الفساد وسوء الإدارة* . بعض العسكريين، خاصة من الخلفيات القومية أو العشائرية، قد يحنون إلى النظام السابق، مما يعكس غياب هوية وطنية موحدة حتى داخل المؤسسة الأمنية.
هذه الخطابات المتنوعة، التي رأيتها عن قرب خلال مسيرتي ، *تكشف عن الحقيقة المؤلمة: العراقيون يفتقرون إلى هوية وطنية جامعة* .
 كل جمهور يرى العراق من زاويته الخاصة، سواء كانت طائفية، إثنية، عشائرية، أو اقتصادية.وقد عزز النظام السياسي الحالي، القائم على المحاصصة، عزز هذه الانقسامات بدلاً من تجاوزها.
*نعم، العملية السياسية، التي بدأت في 2003، كانت فرصة لبناء هوية وطنية، لكنها تحولت إلى ساحة صراع بين هذه الخطابات* . حتى المرجعية الدينية، التي حاولت لعب دور موحد، لم تستطع سد الفجوات بين هذه الجماهير.
في النهاية، تظل رحلة العراق نحو هوية وطنية موحدة تحديًا كبيرًا. تجربتي، التي امتدت من قاعات التدريس إلى قلب العملية السياسية، علمتني أن العراق لن يجد استقراره إلا إذا تجاوزت خطاباته الفرعية حدود الطائفة والعشيرة والحزب.
*الحل يكمن في بناء رؤية مشتركة تحترم التنوع وتضع العراق أولاً، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية ووعيًا اجتماعيًا يتجاوز المصالح الضيقة. إن العراق، بكل تناقضاته، يستحق أن يكون وطنًا للجميع، وليس ملعبًا لصراعات الهويات* .

أحدث المقالات

أحدث المقالات