يبدو تاريخ العراق الحديث ، كما لو كان تراكما ،لا نهائيا ، من المشاكل التي تركت دون حلول . مشاكل تنفتح على ، اخرى ، اكثر تعقيدا او تفضي الى عواقب اوخم . و مشاكل تحل بالهروب، منها الى الامام . بافتعال مشاكل اخرى ، والانغماس فيها او العكوف على حلّ وهمّي لها ، بغية اهدار الوقت واستنزاف الجهد ! يحّف بهذا ويواكبه ، انبثاق مستمر لمشاكل وتحديات ، اخرى جديدة . وفي خضّم ذلك ، وبسببه ، يبدو العراق ، بالرغم من كل امكاناته ، فقيرا وبائسا وملعونا بالاضطراب واللا استقرار ، بالنسبة لمعظم جيرانه ، سواء من البلدان والشعوب التي تعاني من شّحة بل وندرة الموارد ، او تلك التي كانت ، حتى الامس القريب قطعة ،خالصة، من بداوة غابرة . انه بلد ، بالاحرى، شعب ، يعاني من اعاقة دائمة !
ان التحديات الاولى ، التي واجهت الدولة العراقية الحديثة منذ انشاءها ، ما تزال كما هي ، دون تسّوية او حل ، بل ان بعضها تفاقم ليتخذ شكلا او تحديا خرافيا ، فالمدينه والحاضرة ، مثلا، والتي اعتمدت اساسا للتحديث والتمدن ، اندحرت ، في مواجهة الريف ، واصبحت لدينا مدن وحواضر تتّريف على وجه السرعة وتتغنى بالعودة الى البداوة . والعشيرة ، التي اريد لها ان تنصهر في اطار الهوية الوطنية ، ابتلعت وتمثلت هذه الهوية التي تتشبث ،الان ،بالبقاء ،متوسلة، العشيرة، !! التي تقف اليوم ، بعد قرن من الزمان ، تقريبا ، بنفس الندّية والضراوة التي واجهت بها الدولة الحديثة ، في بواكيرها . والمرارة التي تكلم بها “فيصل الاول ” عن دولة ليس لها من القدرات العسكرية ما للعشائر ، التي تميل ، ابدا ، الى الفوضى والتمّرد على الدولة ، يعاد انتاجها الان ، في ظل ظرف مختلف تماما ، اذ كان الزمان ، يومذاك ، زمان صعود وتألق الدولة ، اما اليوم فهو زمن صعود وتألق ، الجماعة الثانوية الصغيرة ، او يراد له ان يكون كذلك ، وهي ارادة جبّارة لايمكن الاستهانة بها ، ابدا !
لماذا كانت مسألة ، التقدم والبناء من جهة ، والفشل والنكوص ، من الجهة الاخرى ،لدينا ، دورية ، بهذا الشكل ، بحيث لانكاد نسير خببا حتى نعود الى نقطة البداية ، وما نكاد نهّم بالتحليق حتى نسقط مهيضي الجناح ؟ لماذا كان العراق ، ومازال ، جحيما لمواطنيه ، وكنزا يسيل له اللعّاب للباحثين عن الكنوز من الاجانب ؟! لماذا اقترن ويقترن حب العراق ، بالنسبة للغالبية الساحقة من العراقيين ، بالدم والموت والسجن والمنفى وزنزانة الاعدام والتعذيب والشقاء والدموع ، ويكون ارض الفرص ، والكرم ، والسماحة ، والاريحية ،بالنسبة للغرباء ؟! لماذا اتّسم تاريخه الحديث ، ناهيك عن القديم والغابر ، بكل هذا الالغاء القسري والعنف الاهوج والهمجية المنفلته ، رغم انه من اكثر بلدان المنطقة او شعوبها التي تستند الى تاريخ حافل و حضارة عريقة ؟ ماض ، علّم الانسانية ، بالفعل ، الحرف والفن والقانون ؟ هل ان عراقيي الحاضر هم قوم اخرون لا صلة لهم بحضارة وادي الرافدين البائدة ، موجة بشرية اخرى ، حلّت بارض يباب كانت حضارتها قد افلت و اندرسّت منذ قرون ، وتتمسك بادعاءات لاتعنيها ومنجزات لاتعود اليها ؟
يذكر الفيلسوف الاسباني، خوسيه غاز يت ، في مقدمة كتابه المّهم ” تمّرد الجماهير ” ، قصة ، يقول انها شائعه ، من غير الحاح على مدى واقعيتها ، على حد تعبيره ، انما يعنيه من امرها ، ويعنينا ، اشارتها ذات الدلالة الواضحة ، يقول ، انه حينما احتفل بعيد ميلاد ، الشاعر الفرنسي العظيم فكتور هيغو ، اقيمت حفلة عظيمة في قصر الاليزيه ، حضرها ممثلو الامم ، كلهم ، مقدمين تهانيهم ، كان الشاعر الكبير يقف في قاعة الاستقبال الكبرى بجلال تمثال ، مستندا الى ركن مدفأة جدارية ، وكان ممثلو الامم، يتقدمون، امام اعين الجمهور ليقّدموا تهانيهم ، يسبقهم صوت جهوري لحاجب يعلن عنهم :
( السيد ممثل انكلترا ….) وكان فيكتور هيغو ، يقول بصوت درامي مرتعش وعيناه في الفراغ ” انكلترا ، آه شكسبير !”.
ثم يتابع الحاجب ( السيد ممثل اسبانيا ….) وفيكتور هوغو يقول ” اسبانيا ، آه سرفانتس !” . ثم يتابع الحاجب ( السيد ممثل المانيا ….) فيقول فيكتور هيغو ” ألمانيا ، آه غوته !” …..
ولكن ، لمّا جاء دور سّيد بسيط ، ربع القامة ، ضخم الجثة ، ومتعثر المشية ، صاح الحاجب ( السيد ممثل مابين النهرين !)….
تلجلج هيغو ، الذي ظلّ ، حتى تلك اللحظة ، رابط الجأش وواثقا بنفسه ، ودارّت عيناه ،في محجريهما ،قلقتان وكأنه يبحث، في الكون ، عن شيء مناسب ، ثم عاد اليه الاحساس، بالثقة، بعد ان وجده ، فرّد على تحّية السيد الضخم بلهجة مؤثرة : ” مابين النهرين ! …..آه الانسانية !”
مالذي جعل ما بين نهرين … الانسانية ،صورة من صور ، الفشل الانساني ؟!…. عند تفحص معظم الوقائع المؤثرة ، منذ عشرينات القرن العشرين حتى اليوم ، نكاد نلمس خيطا ناظما اوحد..، خطا اسودا مميزا يخترق الصورة منذ تلك البدايات ، حتى اليوم ، انه عدم النجاح في تحقيق توافق وطني حقيقي ، لحمة يغلّب فيها الجميع ، عراقيتهم بالاقرار المتبادل والمتساوي لكل منهم على اساس الحق والواجب ، والامثلة ، في الوقائع ،كثيرة .وتكمن في خلفيتها كل ما عشناه ونعيشه من ا زمات، ظاهرة وباطنة .
لقد تجاذب العراق ،واستقراره ، ولحمته ، مؤثران اساسيان ، يعود اليهما ونتج وينتج ، عنهما ، معظم ما شهده ويشهده من صراع ومآس ، هما : اولا التنافر الداخلي وعدم تسوية مشكلة الهوية الوطنية العراقية تسوية حاسمة ومقنعة وعادله تحقق التلاحم والاندماج الوطني ، وثانيا ، المؤثر الاقليمي الذي حاول ويحاول ، دائما ، صياغة الوضع الداخلي والتأثير فيه وفقا لما يراه ويحقق مصالحه ويجد في قوى الداخل استجابة وامتثال . ان حل تاثير هذين العاملين ،ايجابيا، ولصالح العراق ومستقبله يقوم على اساس ديمقراطية “محتوى “حقيقية تتصدى لمشكلاته واولوياته،الفعلية ، لا المتخيلة ، بنفس جاد ومثابرة مخلصة ، لا ديمقراطية “شكل” او وسائل ، كالتي نعيش ، تعّقد الوضع اكثر وتفاقم مشاكله وتنتج المزيد من التحديات الشائكة بدلا من تقديم الحلول .ان توزيع القوّ’ة وتعدد مراكز القرار ، مثلا ، والذي اريد له ان يكون صمام امان ، ضد تمركز وتركز السلطة وتكرر الديكتاتورية ، انتج ، في ظروفنا ، الضعف والانقسام والاعاقة ، والمزيد من التشظي لدى مراكز القوة الثانوية التي تجد بقائها وديمومتها وتوسعها ، في الاعاقة الدائمة للتوّحد والانسجام وبناء القّوة او الارادة الوطنية الجادة . ان ديمقراطية ” الشكل ” دون المضمون الفعلي هذه ، اصبحت مشكلة ، بدلا من ان تكون حلا او تصبح وسيلة للحل ، وبين ايدينا المثال الاخير ، لكل ما تقدم من قول : ارتفعت وتفاقمت مطالب الناس المشروعة في سبيل تلبية الحاجات الاساسية للحياة الحرة، الامنة، و الكريمة التي يعّقدها ويفرغها من محتواها وامكانية تلبيتها الفساد والجهل والبيروقراطية والاستغلال ، لكن الجهات المعنية بالاستجابة والحل ، رأت في هذا الامر اجندة سياسية ولجأت الى التسويف والالتفاف . وجدت اجندات ومصالح ، عديدة ، داخلية واقليمية ، بالفعل ، في هذه الحالة فرصتها للدخول على الخط ، والضغط باتجاه ماتريد ، فاصبح الوضع ، حقا يشتمل على ماهو جاد ومشروع وعراقي من جهة ومغرض ومبطن من جهة اخرى ، لكن الحالة تركت تتفاقم ، تحت سمع وبصر المعنيين بالاستجابة ، وعلى مدى اشهر ، وكأن التفاقم هو المطلوب والتعقيد هو المبتغى ، واصبحت التظاهرة اعتصاما ثم عصيانا، ثم انفجر الوضع الذي اصبح محل فعل يومي دؤوب وتصعيد مستمر لقوى العملية السياسية ذاتها ومصالحها المتناقضة وامسى الشعب والمطالب الشعبية ، مثلما كانت دائما ،وسيلة يمتطيها السياسيون واجنداتهم الى تحقيق مكاسب ذاتيه ومصالح حزبية ، ولم تجد السلطة في افقها من حل للاشكال ، الذي تركته يتفاقم ويتفاعل وياخذ ابعادا تكاد تخرج عن السيطرة ، الا القوّة ومحاولة اثبات الهيبة ، في وقت متاخر جدا ، نجم عنه ماكان لابد ان ينجم عن الوسيلة الخطأ في الوقت الخطأ مع الناس الخطأ ، وبدلا من تظاهر سلمي مشروع والاستجابة لمطالب شعبية عادلة ، نجد انفسنا، الان ، على ابواب اقتتال وشيك وافق احتراب ، مرعب !