في تاريخ العراق المعاصر حدثان بعيدا الأثر: غزو العراق للكويت في الثاني من آب/ أغسطس 1990، وغزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في 19 آذار/مارس 2003. ترى هل استفاد القادة السياسيون من دروس هذين الحدثين؟ يبقى ذلك موضع تساؤل وشك. فما يزال العراقيون يتعرضون للظلم، وما يزال الخطر على الحياة والأضطراب يشكلان جانباً قاسياً من واقع البلاد حتى مطلع هذا العام، حتى باتت المعاناة الجماعية منتشرة على نحو لا يمكن إخفاؤه.
ولعل معضلة الحياة في العراق تؤكد عدداً لا يحصى من المآسي:
فمنذ الغزو الأمريكي – البريطاني عام 2003 بات التوتر العرقي والطائفية عنصراً أساسياً في سياسة العراق، وذلك في حركة استقطاب وتجاذب بين جماعات المجتمع لم يألفها العراقيون من قبل. وهذا ما يفسرّ الجرائم المرعبة التي ترتكب حالياً كالقتل والاختطاف وتدمير الممتلكات. وهنا تجدر الإشارة الى العلاقات المتدهورة بين بغداد والمحافظات الكردية الشمالية الثلاث.
ومنذ سنين الحرب والعقوبات الإقتصادية والاحتلال انهار النظام الصحي الحديث النموذجي الذي كان يتمتع به العراق. وعادت الى الظهور من جديد على نطاق واسع حالات سوء التغذية، والأمراض التي اختفت من العراق كالتيفوئيد وألتهابات الجهاز التنفسي والحصبة والسلّ.
لقد أدى التدمير المُنظم لأنظمة المياة والصرف الصحي، وخصوصا في حرب عام 1991، وشحّة الأدوية خلال فترة العقوبات المفروضة وفترة ما بعد الغزو عام 2003، الى التسريع بوتيرة التدهور في الوضع الصحي وزيادة عدد الوفيات في جميع أنحاء البلاد، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وقد نتج عن استخدام القوات الأمريكية اليورانيوم المنضب (وهي ذخيرة مشعة خارقة للدروع) والفسفور الأبيض عامي 1991 و 2003 مخاطر صحيّة وبيئية هائلة في العراق. وكانت الحكومة الأمريكية قد سعت في أوائل عام 2000 الى منع منظمة الصحة العالمية من القيام بمسح في المناطق الجنوبية في العراق التي أستخدم فيها اليورانيوم المنضب. ورفضت أن يُحسب في عداد المصابين بتلك الأسلحة المرضى بسرطان الرئة واللوكيميا (سرطان الدم) والمواليد الجدد ذوو التشوهّات الخلقية. ولحسن الحظ، لم تفلح المحاولات المحلية والدولية في ثني الجهود التي بذلت لجمع المزيد من الأدلة التي تُظهر علاقة الأمراض والمخاطر التي حدثت في العراق بتلك الملوثات الناجمة عن الحرب.
وقد أظهر مسح أجرته الحكومة العراقية حول السلامة العقلية عام 2009، أن عملية التهجير الهائلة وأجواء الخوف والتعذيب والموت والعنف قد أسهمت في تفشي الأمراض العقلية في البلاد. وقد انعكس ذلك في ما قاله شيخ في الموصل بأنهم (دمروا أقتصادنا والآن يحاولون قتل عقولنا).
يُقال إن العراق يمتلك ثالث أكبر أحتياطي نفطي في العالم، ومع هذا، لا تزال معدلات تصديره للنفط أقل من المعدل المتوسط الذي يبلغ 2.2 مليون برميل يومياً، والتي كان بأمكان العراق أن يسوقها خلال سنوات العقوبات. وكان من بين الأسباب تخريب خطوط الأنابيب والفساد وعدم القدرة على إعادة تأهيل المنشآت النفطية في مرحلة ما بعد الغزو والمقاومة العراقية لتسليم التنقيب عن النفط لمصالح أجنبية – من خلال عقود مشاركة الإنتاج. لكن، مع غنى البلاد بالنفط، يعيش 22.9% من العراقيين من أصل 33 مليون عراقي في الفقر، ويصارع العدد الآخر من أجل البقاء في ظروف معيشة تكاد تكون أقرب للفقر. يبلغ الدخل الأجمالي للفرد وفقاً لأحصائية أجريت عام 2011 حوالي 2.640 دولار فقط (وفقاً للبنك الدولي). وصنّفت منظمة الشفافية الدولية القطاع العام في العراق بأنه وصل الى أعلى معدلات الفساد في تقييم لـ 169 دولة من بين 176 دولة عام 2012.
وفي رسالة مفتوحة إلى لجنة مكافحة الكسب غير المشروع في البرلمان العراقي وجهها عام 2011 السيد رحيم حسن العكيلي رئيس هيئة النزاهة ذكر فيها مايلي: (إن الصراع حول سرقة أموال الدولة وممتلكاتها هو جزء غير معلن من الصراع على السلطة في العراق اليوم). على الرغم من الفجوة المزرية بين الأغنياء والفقراء، فقد قامت الحكومة العراقية بتوقيع أتفاقية مع الحكومة الأمريكية عام 2011 لشراء طائرات حربية من نوع 18 F-16 بقيمة 3 مليار دولار، في حين يعيش مايقارب ربع الشعب العراقي في الفقر، وتجاوزت معدلات البطالة نسبة 28% وفقاً للأمم المتحدة.
هناك مقولة في الشرق الأوسط تقول (مصر تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ)، لقد سجّل العراق أعلى معدلات لمحو الأمية في الشرق الأوسط في الفترة التي سبقت غزو الكويت في أغسطس عام 1990.
لقد غيــــرت العقوبات ذلك….
أظهر مسح أجري عام 2007 من قبل البنك الدولي والحكومة العراقية أن هناك مايقارب 23% من العراقيين لا يعرفون القراءة والكتابة، فهناك 5 ملايين طفل بعمر المدرسة لم يتم تسجيلهم في المدارس، وهناك تفاوت شديد في التعليم بين الجنسين. وقد طرأت تطورات خطيرة في قطاع التعليم منذ عام 2003: لقد وجد ان عنصر الطائفية بات يلعب دوراً كبيراً في قطّاع التعليم والذي أثر في الغالب على الطلبة سنة وشيعة. ومما يزيد في القلق ما توصلت إليه دراسة مشتركة قامت بها جامعة غنت ومحكمة بروكسل عام 2011، من تعرّض الطبقة الفكرية والتقنية إلى حملة ترهيب، واختطاف، وابتزاز، وقتل عشوائي واغتيالات مستهدفة. تعد هكذا ظروف في العراق بمثابة تذكير لاغتيال العلم، وإبادة جماعية لقطاعات التعليم.
وهنالك مخاطر وصعوبات أخرى تهدد حيات العراقيين في السنوات الأخيرة:
منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، أصبح العراق نقطة عبور للحشيش والهيروين من إيران وأفغانستان (وفقاً للأمم المتحدة). وقد أكدت وزارة الصحة العراقية أن معدلات الأدمان محلياً ” ترتفع بشكل مطرد”، بينما لم يسبق أن كان في العراق مشكلة تعاطي المخدّرات.
كان من الصعب الحصول على مواد إنشائية لبناء وحدات سكنية أضافية خلال السنوات الثلاث عشرة من العقوبات ومابعدها، مما زاد من وجود المساكن المكتظة والتي بدورها أدت الى أرتفاع معدلات العنف المنزلي والتي يكون ضحاياها في الغالب من النساء. يقدر تقرير للأمم المتحدة أن هناك أمراة من بين 5 نساء في العراق تعاني من العنف المنزلي، وأحدثت الحروب وأعمال العنف تغييراً جذرياً في الطابع الديموغرافي والأجتماعي في العراق.
يلمح وزير العمل والشؤون الأجتماعية عام 2011 أن هناك مايقارب الـ 4.5 مليون طفل عراقي فقدوا والديهم، أي أن هناك نسبة مخيفة تقدر بـ 14% من أطفال العراق من الأيتام. ومنذ غزو عام 2003، وصلت نسبة يتم الأطفال في العراق الى 70%. وهنالك مايقارب الـ 600.000 طفل منهم يعيشون في الشوارع، فيما يبقى القليل منهم في ملاجىء الأيتام والتي يبلغ عددها 18 ملجاً في مختلف أنحاء العراق وفق ما أخبرنا به، ومن الجدير بالذكر أنه وفقاً للتقاليد العراقية، لم يكن هنالك حاجة لأيداع الأيتام في دور للأيتام، فأقارب الأطفال من الممكن أن يتولون رعاية من فقد والديه…لكن الدكتاتورية، والحروب، والعقوبات، والجريمة قد غيرت هذا أيضا…..
هناك تقريباً مليون عائلة تعيلها أمرأة في العراق، معظم هؤلاء النسوة من الأرامل، وضحايا للعنف المسلح والعنف الطائفي (وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر– 2010 ). بغض النظر عن الأضرار الجسدية والعقلية والأقتصادية والأجتماعية الجسيمة، واجه العراقيون أيضا الواقع المرير من القيود المالية التأديبية خلال سنوات العقوبات.
منذ عام 1990 الى عام 1996، وهو العام الذي طبق فيه برنامج النفط مقابل الغذاء، تم تجميد جميع الحسابات العراقية في الخارج، ولم يسمح للنفط في أن يباع دولياً، وأعتمد الشعب العراقي بالكامل على مساعدات ضئيلة من الخارج، بعيدة كل البعد عن فرصة الحصول على حياة كريمة.
في الوقت الذي كان يزعم بأن برنامج النفط مقابل الغذاء – والذي أستمر منذ عام 1996 ولغاية 2003 بأنه إعفاء إنساني – كان في الواقع يتم تمويله بالكامل من أموال النفط العراقي المحدودة خلال فترة العقوبات! فقد كان أكثر بقليل من برنامج تجهيز خاضع للتمويل. تم تحويل 19 مليار دولار من إجمالي دخل النفط والبالغ 64 مليار دولار الى لجنة التعويضات للأمم المتحدة في جنيف. في ذلك الوقت، كان معدل الوفيات بين الأطفال في العراق هو الأعلى في العالم، حيث بلغ عدد الحالات 130 وفاة من بين كل 1000 طفل.
كان المبلغ الذي تم تحويله إلى لجنة التعويضات في الأمم المتحدة عبارة عن تعويض للأفراد والشركات والحكومات، وخاصة حكومة الكويت جراء مزاعم حول نتائج غزو العراق للكويت. لو كانت هنالك قيادة لديها ولو القليل من الأخلاق في مجلس الأمن، لكان بأمكانها تأجيل دفع هذه التعويضات ومنع العديد من الوفيات بين أطفال العراق.
خلال فترة ست سنوات ونصف، توفر فقط 43 مليار دولار لسد أحتياجات 23 مليون عراقي، وهو مبلغ زهيد، فمن هذا المبلغ تم أستخدام 28 مليار دولار فقط لهذا الغرض، ومن أهم الأسباب هي الأدارة الجزئية، وبيروقراطية مجلس الأمن المبالغ بها لبرنامج النفط مقابل الغذاء، والحجب المتعمد للإمدادات الضرورية من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
إن البرنامج الأنساني للأمم المتحدة لم يكن مصمّماً لكي يعمل !
النتيجة النهائية: تقدر قيمة السلع للفرد خلال اليوم والتي يستفيد منها العراقيين، بحوالي 51 سنتاً أمريكياً، وهذه حقيقة مخزية يتحمل مسؤوليتها كل من الحكومتين الأمريكية والبريطانية بصورة كبيرة. لقد دفع العراق ـ ولغاية شهر تشرين الأول 2012 ـ مبلغاً قدره 38.5 مليار دولار كتعويضات لللأطراف الثلاث التي تم ذكرها أعلاه.
إن مطلب العراقيين الشرعي اليوم هو أن الوقت قد حان للحصول على تعويضات من الخارج جراء الدمار الذي سبّبته الحرب، تلوث الهواء والماء والتربة، تدمير الأراضي الزراعية، البنية التحتية، شبكات المياه، الصرف الصحي، محطّات الطاقة الكهربائية. وحتّى الآن، فقد تم تجاهل تلك المطالب من قبل المجتمع الدولي. يشكل هذا معياراً مزدوجاً لا يطاق ولايمكن تقبله.
في آذار 2003، وبعد أن إنتهى نظام حكم صدام حسين، تم تحديد الديون الكليّة المترتبة على العراق بما يقدّر بين 50- 80 مليار دولار. ويذكر أعضاء نادي باريس التسعة عشر، ومعظمهم من الأوربيين، بأن ديون العراق لأوربا تقدر بحوالي 38.9 مليار دولار، أما ما تبقّى من الدائنين فهمّ بصورة رئيسية من الدول العربية وبالتحديد دول مجلس التعاون الخليجي.
يحاول البعض التقليل من حجم التدمير المتعمّد للتراث العراقي، وحضارته، وسرقة آثاره، والأنتهاك الصارخ للقانون الوطني والدولي، وزرع التضليل والمعلومات الخاطئة، والجريمة، والوحشية، وتجاهل الأهتمامات الإنسانية الأساسية والمعايير الأخلاقية. يجد البعض تلك الأتهامات مرفوضة ومنافية للعقل وأيديولوجية وغبيه، في حين يبقى البعض الآخر صامتاً أزاءها، وهذا حال يرثى له حيث أنهم ليس لديهم مايقدمونه! فهم يصرّون بأسم الديمقراطية بأن “الصورة الأكبر” المعروفة، صورتهم الأكبر، هي ما يبرّر ما قاموا به!.
إنهم لا يفهمون ماهي مستلزمات الديمقراطية والأنسانية الحقّة. إنها ليست علبة مشروب غازي وكيس رقائق البطاطس، بل هي عن الأمن البشري، وإتاحة الفرصة لتشكيل حياة المرء في التحرر من العوز والخوف.
إن العراق، الذي يعدّ من الدول الكبرى في العالم التي تمتلك النفط والغاز، ينبغي أن لا يواجّه أي صعوبة في منح حياة كهذه لمواطنيه. لكن بدلاً عن ذلك، أصبح العراق مثالاً للدولة الفاشلة والتي تنافس في فشلها الدول الأخرى المحرومة كأفغانستان والصومال، وطبعاً، فلسطين، للحصول على تاج البؤس.
لقد كوّن التأثير العام لتلك العناصر في العراق مأساة أنسانية لايمكن وصفها. أما الجناة، فلن يسمح لهم مع كل ما قاموا به من أن يركنوا للراحة، أو التوهمّ بأن جرائمهم ستختفي ببساطة في الأفق البعيد من اللامكان. كلاّ، فالمساءلة سوف تسود.
ومن هنا، فلا بدّ من التأكيد، على أن جهود هيئة محكمة كوالالمبور لجرائم الحرب، التي أسسها عام 2005 الدكتور مهاتير محمّد، الذي شغل منصب رئيس الوزراء في ماليزيا للفترة من 1981- 2003، تعدّ خطوة أولى بهذا الأتجاه. فقد عملت الهيئة ولسنوات على تقديم مجموعة هائلة من الأدلة من خلال الحصول على وثائق قانونية وشهادات للضحايا. تلك الأدلة، التي جرت مراجعتها بصورة دقيقة من قبل محكمة كوالالمبور لجرائم الحرب، سمحت للمحكمة أن تعلن في شهر تشرين الثاني 2011 وفي آيار 2012 بأن أعلى المستويات الحكومية الأمريكية والبريطانية مذنبة في جرائم الحرب والتعذيب. إن هذا الأعلان لم يكن بالطبع مفاجئا ًبالنسبه لجورج بوش الأبن وتوني بلير!
لقد حكمت المحكمة بما يلي: إن كلا المسؤلين (أي بوش وبلير)، وكبار مستشاريهما قد أرتكبوا جرائم ضد السلام، حيث أنهما قد “خطّطا، وجهزا، وقاما بغزو العراق، البلد ذا السيادة، في خرقٍ واضح للقانون الدولي، وأرتكبوا جرائم تعذيب وجرائم حرب، متجاهلين معاهدة جنيف وقانون الأمم المتحدة الخاص بالتعذيب”.
مارآه المرء لا يمكن حجبه عن الرؤية !… كم يمكن للإنسان أن يتحمل؟
يجب أن يكون عام 2013 عاماً يرى فيه الجناة أن حالة الإفلات من العقاب قد ولّت. وينطبق هذا بصورة خاصّة على أولئك الذين كان لهم دور اساسي في خلق المعاناة في العراق لعدة عقود. يجب أن تطبق الإجراءات القانونية على الجميع، عراقيين كانوا أم غير عراقيين، فمواجهة العدالة مع ذلك ليست فقط لأولئك الذين خسروا.