18 ديسمبر، 2024 7:01 م

تتداول المجالس الخاصة ،السياسية والاعلامية في بغداد بعض ما دار في اروقة قمة بغداد 2 التي انعقدت في العاصمة الاردنية عمان مؤخرا .
ويدور الحديث حول ماطرح في اللقاءات الخاصة والثنائية التي جرت في اروقة القمة والتساؤل حول مستقبل ودور العراق في المرحلة المقبلة وذلك في ضوء المتغيرات في السياسة الدولية واختلال معادلات القوة التي كشفت عنها الحرب الروسية الاوكرانية وازمة الطاقة ورغبة الولايات المتحدة بالانكفاء عن الاهتمام المباشر بالشرق الاوسط والتوجه نحو تقويض المارد الصيني.
وتفيد التسريبات بان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ابلغ الجانب العراقي بان الوقت قد حان لتنهض بغداد لكي تتماهى مع معادلة القوة العربية بعد ان استعادت دمشق والقاهرة اوزانها الحقيقية في هذه المعادلة .
ويبدو ان معضلة ( تقزم او تقزيم ) الدور العراقي في المنطقة والعالم كان مدار حديث الاطراف المعنية العربية والاوروبية اثناء وبعد قمة بغداد 2 . فالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تحدث عن العراق الضحية وقال : ان العراق هو احد الضحايا الرئيسيين لزعزعة الاستقرار الاقليمي .
الملك الاردني عبدالله الثاني اشار وبوضوح الى ان قوة الاردن من قوة العراق وان بغداد يجب ان تضطلع بدورها التاريخي في المنطقة.
وهذه النبرة التي يختلط فيها الامل والرجاء بالحسرة والقلق ،واضح انها في جوهر السياسات الاوروبية وذلك مع تطلع اوروبا نحو دور رئيسي في الشرق الاوسط يحل محل النفوذ الاميركي وينافس النفوذ الصيني والروسي في هذا الجزء الحيوي من العالم .
فبعد ثلاثة ايام من انتهاء قمة عمان ،زارت رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني بغداد ومنها اوصلت الرسالة الاوروبية لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني حينما قالت :العراق القوي هو شرط من شروط استقرار الشرق الاوسط وازدهاره.
و عقب القمه ، رصد المتابعون اتصالات شبه يومية بين رئيس الوزراء العراقي ومستويات مختلفة من المسؤولين الاميركيين ، السياسيين والعسكريين .
والذي يفهم من هذا التركيز الدولي والاقليمي، هو ان الدور العراقي الطبيعي بات ضرورة عالمية واقليمية ،تستدعيها الحاجة الاقتصادية في ظل ازمة الطاقة ، وسياسية في ضوء المتغيرات في المعادلات الدولية ، وثالثا حاجة ملحة امنيا وذلك لاعادة تفعيل مركز القرار العربي الذي تضعضع الى حد كبير منذ احداث الكويت عام 1990 وبعدها الغزو الاميركي للعراق ومن ثم تداعيات ماسمي بالربيع العربي .
وعلى الرغم من اهمية هذه الرسائل ، الا ان ان القادة السياسيين في بغداد ، ليسوا في وضع يسمح لهم بالمراجعة ودراسة هذه الممطالب الدولية والاقليمية وذلك لاسباب عدة :
فالواضح طيلة 19 عاما من عمر النظام السياسي في بغداد ، هو اتباع منهج الانكفاء على الداخل ، وهذا المنهج ليس دلالة على ان النظام يبدا من بناء الداخل. وبموجب استراتيجية مرحلية ، بقدر ما هو تهرب من القرار و عدم القدرة على صناعة الموقف بحكم التكوين السياسي المتواضع بافقه الضيق للاشخاص الذين تعاقبوا على ادارة المؤسسة السياسية في العراق .
ان اخضاع الموروث السياسي والتكوين الفكري والايديلوجي لهؤلاء المعنيبن بصناعة القرار في العراق ، يكشف انهم يختبئون من عجزهم خلف الانكفاء والتبرير للهروب من المساءلة عن اسباب التقصير في حجب العراق عن دوره ومكانته في المنطقة والعالم وذلك مقارنة بامكانات وقدرات بلادهم الاقتصادية والسياسية والامنية والتي بات المجتمع الدولي بحاجة اليها .
والقاعد الايديلوجية، السياسية والعرقية للعديد من الزعامات تتنافر مع مبدا التفاعل مع المحيط الاقليمي والعربي ، وهو ما خلق انطباع بان طاقم الحكام الجدد في العراق ،غرباء عن الجسم العربي .
فالنخبة الحاكمة ضيعت الكثير من الفرص لاعادة صياغة مركز القرار العراقي ، وآثرت التخلي عن صناعة وانتاج القرار واكتفت برد الفعل ، بل وتبجح اكثر من رئيس وزراء بالقول ان العراق يراعي التوازنات ومصالح الاخرين ، مايعني الابقاء في خانة المتلقي وليس في موقع الموجه والمؤثر والصانع والمنتج للفرص والجاذب لمصالح الاخرين .
ان منهج التلقي يكشف لنا جانبا مهما من الموروث الذي شكل العقلية السياسية التي تتولى ادارة القرار ، فهؤلاء يستمتعون ( بتخيل ) المؤامرات ضدهم وضد نظامهم السياسي لكي يبرروا بقاءهم في خانة المتلقي والانزواء والانقطاع اقليميا ودوليا وذلك عبر بناء سياسة تقوم على التحرك داخليا وافقيا ، في حين تستدعي مهمة بناء الدور وصناعة القرار ان يجري التحرك خارجيا وعموديا .
والواقع يشير الى ان النظام الجديد في العراق عجز عن بناء الداخل وبالتالي فهو اعجز عن اعادة بناء القوة الخارجية . واللكثر من ذلك هو ان الساسة العراقيين تبنوا فكرة التفكيك الاثني والمذهبي لمصالح انانية وحزبية ضيقة ، غير آبهين لحقيقة هو ان التفكيك المجتمعي على اسس طائفية وعرقية سياسية قد فاقم من التوتر الامني في المنطقة وبالتالي جعل العراق بؤرة غير مستقرة تهدد امن الاقليم .
ولكن، الى متى يصبر العرب والمجتمع الدولي على العجز العراقي ؟
في اعتقادي هناك قراءة ثانية للرسائل العربية والاوروبية والاميركية الموجهة نحو بغداد ، وتأتي في سياق التحذير والانذار من مغبة ابقاء قدرات العراق ( رهينة ) لدى الزعماء في هذا البلد .
فالعراق مطالب بالمساهمة في وضع الترتيبات الامنية في المشرق العربي وغرب اسيا ، ومطلوب ايضا في تنظيم سوق الطاقة العالمي .
والاهم من كذلك ، هو ان العراق يلعب دورا سلبيا في الاقتصاد العالمي على مستويين :
الاول : ان العراق ترتيبه العاشر عالميا في الاضرار بالمناخ وعامل مسبب في التغيرات المناخية بسبب الانبعاثات الغازية ومشكلة التصحر وهدر المخزونات والموارد المائية وتخلف الزراعه .
ثانيا : العراق ومنذ عام 1980 والى اليوم تحول الى سوق استهلاكية ولصالح دول محددة ، فالازمة الاقتصادية في العالم تستدعي انتقال العراق من كونه ( صراف آلي ) يدفع للغذاء والسلاح ، الى دولة مساهمة في الاستثمارات وتحويل عائداته المالية الهائلة الى رأسمال منتج في القطاعات الصناعية والزراعية وتمويل المشروعات التي تسهم في نمو الانتاج العالمي .
وسبق لمركز الدراسات في صندوق النقد الدولي ان حذر العراق من مخاطر الاتجاه نحو الدولة الريعية عبر تخصيص 77% من مدفوعات الموازنة العامة على شكل مرتبات لملايين الموظفين غير المنتجين في القطاع العام .
وفي الخلاصة ، فان القوى الكبرى والمؤسسات الاممية المعنية بالاقتصاد العالمي ومستقبل الطاقة والغذاء والسلم الدولي ،قد تلجأ الى تبنى خيارات غير سلمية في التعاطي مع دول وحكومات ومنها العراق اذا لم تعيد هذه الدول النظر في سياساتها التقليدية وتنتقل نحو التفاعل مع الاحتياجات العالمية المشتركة .
اما عربيا ، لم يعد بوسع العرب تحمل وضع العراق وبقاء حالة الاستنفار لمنع تحول حالته غيرة المستقرة منذ 41 عاما الى لحظة انفجار ،كما لم يعد مقبولا عقد القمم الرعوية واجتماعات الوصاية من اجل العراق الذي يفترض ان يستعيد دوره الريادي وينتقل الى رعاية وتبني القمم العربية ولصالح احياء مشروع القرار العربي .
* عبد الجليل الزبيدي / كاتب وإعلامي
[email protected]