14 يونيو، 2025 12:37 م

العراق بين الدولة واللا دولة: الحلقة الثانية – الانقلابات وفوضى الأيديولوجيات

العراق بين الدولة واللا دولة: الحلقة الثانية – الانقلابات وفوضى الأيديولوجيات

حينما كتبت الحلقة الأولى لم أكن أتوقع كل هذا الاهتمام لأن مايحدث في العراق من فوضى وتسطيح لا يسمح أبدا بقراءة مقالات لا تتناسب مع واقعنا ..
يجسد العراق صراعاً مزمناً بين طموح بناء دولة حديثة ذات سيادة وهيمنة “اللا دولة” التي تتسم بالفوضى المؤسساتية وتشتت القوى. هذا المقال، الحلقة الثانية من سلسلة تتناول هذا الصراع منذ تأسيس العراق عام 1921 حتى 2025 .
الدولة، في سياقنا، هي كيان سيادي يوحد شعبه عبر الدستور ويحتكر القوة الشرعية، بينما “اللا دولة” هي تفكك المؤسسات وتعدد مراكز القوة كالمليشيات ومافيات الفساد وقوى خارج إطار المؤسسات الرسمية .
جاء انقلاب 14 تموز 1958، بقيادة عبد الكريم قاسم، الذي أطاح بالنظام الملكي، حاملاً آمالاً بجمهورية عادلة. لكن هذه الآمال تبددت سريعاً، إذ اصطدمت الدولة الناشئة بصراعات أيديولوجية وانقلابات متتالية. فقاسم، رغم شعاراته الوطنية، واجه تحديات معقدة. فمن جهة، حاول تعزيز الهوية العراقية عبر إصلاحات اجتماعية كتوزيع الأراضي، لكنه أثار سخط الأحزاب الأيديولوجية، خاصة الحزب الشيوعي وحزب البعث، التي تنافست على النفوذ.
 ومن جهة أخرى، أدى رفضه منح الأكراد حكماً ذاتياً، رغم وعود الدستور المؤقت، إلى اندلاع تمردات كردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني عام 1961.
هذه التمردات، التي نتجت عن حقوق مسلوبة وشعور بالاضطهاد والمظلومية وبدعم إقليمي، كشفت عن استمرار “اللا دولة”. فالحركة الكردية أصبحت كياناً موازياً يتحدى بغداد، بينما استغلت الأحزاب الفوضى لتعبئة أنصارها. فقد نظّم الشيوعيون خلايا مسلحة في المدن، بينما شكّل البعثيون شبكات سرية داخل الجيش. وفي هذا السياق، تشكلت علاقة معقدة بين الدولة وقوى الفوضى. فحاول قاسم استيعاب بعض القادة الكورد عبر مفاوضات متقطعة، ولم ينجح . بينما تسللت الأحزاب إلى المؤسسات العسكرية، ممهدة لانقلابات لاحقة.
ثم جاء انقلاب 8 شباط 1963، بقيادة البعث ودعم ضباط قوميين، والذي أطاح بقاسم، لكنه عكس هشاشة الدولة. فالبعث، رغم حكمه القصير، لجأ إلى تصفيات دموية ضد الشيوعيين، مما أدى إلى فوضى وانقسامات. وسرعان ما أطيح به بانقلاب 18 تشرين 1963، بقيادة عبد السلام عارف، الذي حاول فرض استقرار عبر شعارات قومية عربية. لكنه، بتركيزه على المركزية، أغفل المطالب الكردية، فاستمر التمرد في الشمال، بينما واصلت الأحزاب الأيديولوجية، خاصة البعث، إعادة تنظيماتها سراً.
الأحزاب الأيديولوجية شكلت ركيزة جديدة لـ”اللا دولة”. فالشيوعيون، رغم القمع، حافظوا على خلاياهم السرية، بينما أعد البعثيون جناحاً عسكرياً للانقلاب المقبل. وفي الريف، احتفظت العشائر بنفوذها، بينما أصبحت الحركة الكردية قوة منظمة. هذا التعدد في مراكز القوة، مع غياب دستور دائم، جعل الدولة رهينة الفصائل لا كياناً موحداً.
لقد واجهت الجمهورية الأولى عقبات جوهرية.
 أولاً، أدت الانقلابات إلى تآكل شرعية الدولة، إذ أصبحت السلطة جائزة عسكرية.
ثانياً، عجزت عن صياغة هوية وطنية جامعة، فتفاقمت التوترات بين العرب والأكراد، وبين القوميين والشيوعيين.
 ثالثاً، أعاق ضعف الاقتصاد تقديم الخدمات، مما غذّى السخط الشعبي.
الخلاصة، من 1958 إلى 1968، شهد العراق تصاعداً في “اللا دولة” مع الانقلابات والصراعات الأيديولوجية. الأحزاب، الحركة الكردية، والعشائر شكلت مراكز قوة موازية، تسللت إلى الدولة بينما حافظت على استقلاليتها.
 في الحلقة القادمة، سنستعرض كيف تطورت “اللا دولة” في ظل عودة البعث (1968-1979)، حيث بدأت المركزية القسرية تُهيمن وتسيطر على المشهد العراقي .

أحدث المقالات

أحدث المقالات