لا ادري لماذا حضر اثنان في ذاكرتي وانا اقرأ في أوراق السياسة المعاصرة، الأول هو تشرشل الذي قاد بريطانيا في اصعب حقبة فانقذها بحكمته ودهائه من السقوط تحت جزم الالمان العسكرية، ولكن في اول انتخابات بعد الحرب العالمية الثانية سقط هو بإرادة البريطانيين، فقال يومها: الانجليز يعرفون اني قائد حرب وليس سياسي، وهم يريدون بناء دولة لا ان يخوضوا حرب من جديد، وهذا كلام حكيم، يحفظ له كرامته كقائد حرب، ويحترم في الوقت نفسه إرادة شعبه في اختيار قائد سياسي، اما الثاني فهو شارل دي غول، الذي قاد المقاومة في تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، ولكنه اخفق في السياسة أيضا، فتعرض لاحتجاجات قرر على اثرها اجراء استفتاء جاءت نتيجته مخيبة بالنسبة اليه فاستقال على الفور، وتوفي بعد سنة ونصف تقريبا، تاركا وصية تفيد ألاّ يحضرَ جنازتَهُ رؤساء ولا وزراء ولا سياسيون، وألاّ يُحفَرَ على قبره إلاّ: شارل ديغول 1890-1970، وكأنه يعتذر من شعبه الذي استفتاه، ليموت ويدفن كاحدهم.
ان الشعب دائما على حق، ان نصب الحاكم او اسقطه، لان المنطق يقول ان إرادة الشعب تقوم على ما يشبه منظومة مجتمعية عامة نجد تفصيلاتها على صعيد الفكر والثقافة والسياسة، وان بدت فولكلوية، الا انها عميقة تلامس جذور حضارة قد لا نعي تفاصيلها، الا اننا نشعر بها ونحس حتما بامتداداتها على صعيد حياتنا اليومية، وعلى سبيل المثال، انك قد تجد عالما او مفكرا او مثقفا عراقيا، من الاهوار أو المدينة أو الصحراء، يعيش في بؤرة من بؤر التمدن العالمي الغربي او الشرقي، ولكنك عندما تقترب منه كثيرا تكتشف فيه ذلك الفلاح او البدوي أو ابن المحلة المدنية، فهو لم ينفصل عن ينابيع حضارته القديمة، التي تتمظهر بمصاديق واقعية، اعتقد ان هذه الخاصية وحدها هي التي تجعلك تصف انسانا ما بانه اصيل، فتحترم علمه وفكره وثقافته، حتى وان اختلفت معه، والعكس بالعكس،
كنت قد بدأت بلا ادري، والآن انا ادري ان الانسان الأصيل هو الذي يحترم شعبه ووطنه، ويقر لهم بصواب ما ذهبوا اليه، حتى وان كان ما ذهبوا اليه يحكم بخطأه، فان كنت لا ترى لشعبك فضلا عليك، عليك ان تعيد ترتيب افكارك مرة وأخرى وثالثة الى ان ترى ذلك الفضل، وان لم تره فثق ان منظومتك الفكرية على اسوء حال.
انا الآن على يقين بان هذه الشجون هي صدى الم كلمة غبية جرحت مشاعر شعب، صدرت عن احدى ممثلات هذا الشعب في البرلمان، عندما انطلقت تحدث باريحية امام جمهور لبناني عريض بان شعبها الذي تمثله متخلف، هي وحدها اللينينية الماركسية المتطورة، التي لم تصل الى البرلمان ببركة ماركس ولا بكرامات لينين، او بدعوات القديسة روزا لوكسمبرغ وانما وصلت باصوات أولئك الذي نعتتهم بالتخلف، والعجيب انها تتكلم عن الجنوب، ربما لانها لم تسمع بالسيد الحبوبي ولم تقرا قصائد السياب أو عريان او كاظم إسماعيل كاطع، وكثيرين غيرهم ومن قامات شامخة لا تعد ولا تحصى
بدون شك ان الشعب اللبناني شعب طيب، يزخر بالنخب الفكرية والثقافية، وقد عشت في لبنان قرابة العشر سنوات تأكدت فيها بان اللبنانيين، وبالخصوص المثقفين منهم، ينظرون الى العراق نظرة اكبار، حتى ان احدهم عندما شاهد عرضا لمسرحية الاغتصاب لجواد الاسدي، قال لي: لا اعلم ما الذي سنقدمه نحن بعد هذه المسرحية، فقلت له انتم قدمتم كثيرا من الروائع ولديكم قمم فنية في هذا الفن وغيره، ولكن على الرغم من طيبة اللبنانيين الا ان سيدة مثقفة لبنانية، من دون ان تتقصد اية إساءة، قالت لي مرة: ان وطنية العراقيين واعتزازهم بتاريخهم تصل الى حد الوثنية، لم يغضبني كلامها، بل انني وجدت فيه مدحا بما يشبه الذم، فالوطنية مهما كانت اوصافها ليست تهمة، ولا يخجل منها احد، فدبجت تعقيبي عليها بالحديث الشريف: حب الوطن من الايمان، واضفت قائلا اني اجد في اللبنانيين كثيرا من الصفات والعادات الحميدة، ولكن اكثر ما احب فيهم انهم يذهبون نهاية كل أسبوع الى قراهم الجميلة في البقاع والجنوب والشمال ويأتون محملين بالزيتون والزعتر والكشك، يتحدثون بلهجة تلك القرى عن المقاومين الذين يقارعون الاحتلال الصهيوني، يسطرون ملاحم تفخرون بها ونفخر بها نحن العراقيين، لانها تشكل ارثا مشتركا مشرفا يفخر به العرب والمسلمون، فلا تستكثري على العراقي ان يعتز بوطن يقف على كنز حضاري يجد فيه آثار خطوات علي عليه السلام، الخليفة الحاكم وهو يطرق أبواب الفقراء حاملا قوتهم على ظهره، وطن أسس عليه المسلمون الأوائل من الصحابة والتابعين مدن العراق العربي، يوم اقام اجدادنا بقبائلهم السبعة عسكرهم الذي سطر ملحمة القادسية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هل احدثك بما تعرفينه كما اعرفه انا تماما، عن كربلاء والحسين والعباس عليهما السلام، عن بغداد والكاظم والجواد عليهما السلام، تبسمت وقالت ثق انني اعتز بالعراق كما تعتز به انت، قلت لها وثقي انني اعتز بلبنان كما تعتزين به انت، وان الاحاديث في هذا الخصوص كثيرة، تستذكر بفرح، فبماذا يستذكر حديثك عن العراق ايتها النائب، بل النائبة.