ما نشهده اليوم في العراق هو حالة غريبة جدّاً، وقد تكون عصيّة على التّـــوصيف والمقاربة ومن جميع الجهات، حيث يُعاني كلّ من في هذا البلد من اضطراب وفوضى بالمفاهيم والتّـــــعاطي معها، وبالتّـالي ها هو الخراب يسيطر على كلّ شيء، بدءاً من الإنسان، وهو القيمة العُليا في الوجود، ومروراً بالدّولة كمؤسّــسة كبرى راعية لحقوقه وضامنة لاحتياجاته.
ففي العراق اليوم، لا توجد أيّــــة ملامح للدّولة، بل لا توجد لدينا أيّــــة دولة، غير دولة (رئيس الوزراء)، ودولة الشّـــاعر الفلانيّ والمثقّـــف العلاّنيّ، لأنّ مفهوم السُّلطة قد زحف كثيراً على منظومة الإنسان المفاهيميّة وأكل من جرفها الشّيء الكثير، بل لم يُبقي لها أيّ جرف يُذكر!
العراق (وشعبه) اليوم، هو كيان هش للغاية، خاضع لهيمنة الإرادات الدّوليّــــة والإقليميّـــة، ويُعاني من كلّ أمراض الكون، والأغرب أنّـــه لا يريد مجرّد الإعتراف بهذا، بعد أن أوصله ساسته ونخبه الثّـــقافيّة إلى مستويات عُليا من التّــــفكيك، وبرعوا في الأمر أكثر من (جاك دريدا)!
الأحزاب والتّــــيارات السّياسيّة متناحرة مع بعضها، ومنقسمة حتّــى على نفسها، وهذا ما يجعل حلم المشروع الوطنيّ أبعد من المُحال، والنّـــخبة العراقيّة اليوم، لا تُجيد غير التّــــنظير الأجوف في أحسن حالاتها، أو الإسفاف أو التّـــسطيح في الأعمّ الغالب، أمّا عامّة الشّعب، فينتظرون دورهم، ليكونوا مادّة للموت التّـــفخيخيّ الموحّد.
ما يحدث في العراق (شعباً ودولةً وحكومةً)، من الصّعوبة بمكان، أن نجد له ما يصفه، ومن هذه الصّور الغرائبيّة:
• قد نكون الوطن الوحيد في العالم، الذي يعيش بلا شمال!
• قد نكون الشّعب الوحيد الذي يموت من أجل حياة ساسته، ولا نريد أن نحرّك ساكن.
• رئيس حكومة مازال متمسّك بــــ(ما ننطيها) ولا يرعوي أن يُضحّي بالشّعب يوميّـــاً.
• إرهاب واستهداف واضح ويوميّ للشّـــيعة، ولو تحدّثت أحدنا، سيخرج إليك من ينتقدك، حِفاظاً على (أخوك السُّنيّ)، وكأنّ أخي السُّنيّ هو من ذبحني!
والأنكى أنّ الحكومة العتيدة، لا تقوم بشيء يُسهم في حماية الشّـــيعة، بل تذهب لإستفزاز السُّـــنّة، من خلال عمليّات عسكريّة في المناطق السُّـــنيّة، وهي عمليّات خائبة سلفاً.
• الملايين تذهب سيراً على الأقدام إلى الإمام الحسين، ومعظمها لا تذهب من أجل استلهام معاني الثّورة والبطولة من الحسين، بل تعود منهارة ومنكسرة من شدّة التّـــعب، ولن تُمارس عملها ليومين أو ثلاثة، بعد أن ملئت الطّرقات بالأوساخ والأزبال!
• شعبٌ مازال شعاره (هيهات منّـــا الذّلّة) وهو لم يشمّ ريحها أبداً، منذ أن هوى سيف المُرادي فوق رأس الإنسان الأرقى أبن أبي طالب.
• خطيب حسينيّ جدّاً جدّاً، يُبكي الآلاف بصوته الشّجيّ عندما يقرأ مصيبة الحسين، لكنه يختلف مع أصحاب المجلس، لأنّـــهم اقتطعوا من أجرته ثلاثة آلاف دولار لعلاج مريض حالته حرجة جدّاً، ويغضب الخطيب جدّاً جدّاً، ويُقسم بالحسين، بأنّـــــه لن يقرأ لهم مجدّداً!
• مراجع وقادات دينيّـــة كبيرة، تتحكّم بملايين النّاس، لكنّـــها صامتة كـــ(صمت القبور) على كلّ هذا الخراب، إلاّ أنّـها تقلب الدّنيا رأساً على عقب، لو تعلّق الأمر بها أو بمصالحها.
• غياب كامل لأيّــــة مشاريع ثقافيّــة واعية، يُمكنها أن تنقذ البلاد والعباد من هذا البؤس، فقد أصبح المثقّــــف في خدمة السُّلطان، مع كامل الإحترام لبعض الإستثناءات.
• غياب تام للإعلام الحُرّ النّزيه، وطبعاً لا أقول المستقل، فليس بالضّرورة أن يكون الإعلام مستقلّاً، لكن لابدّ أن يكون نزيهاً وموضوعيّاً.
• مثقف كبير جدّاً، تراه يكتب مقالاً صغيراً جدّاً، لأنّ ثمن المقال وفير جدّاً!
• مثقّـــــف كبير جدّاً، يمتدح (شويعرة) صغيرة جدّاً، لأنّها جميلة جدّاً!
• إعلاميّ ناجح جدّاً وجميل جدّاً، يكتب تعليقات بائسة جدّاً على منشورات قبيحة جدّاً، وعندما تسأله عن السّــــبب، يقول لك بأنّـــه يخجل جدّاً، فصاحب المنشور، رئيسه أو زميله في العمل، والأقربون أولى بالتّـــعليق!
• صديق (فيسبوكيّ) حميم، يعتبرك مثله الأعلى وأستاذه الأوّل ومعلّمه الأوحد، لكنّـك لن تجده، بعد أن تُقدّم له بعض النّــــصائح البريئة، والتي تنفعه في حياته.
• شعبٌ هو الأقدر على محاربة المُصلحين ومقاطعة مشاريعهم الإصلاحيّة، وهو الأقدر في نفس الوقت، على التّــــباكي عليهم والتّــــغنّي بهم بعد موتهم!
من هذه الخلطة العجيبة، نستطيع أن نقول: العراق اليوم يعيش بلا دولة ولا نُظم ولا ضوابط ولا معايير، وساسته لا تعرف غير إنتاج المزيد من الخراب، وشعبه يحاول أن ينأى بنفسه عن كلّ شيء، من خلال الإنشغال بــــــ(الآي باد) والــــ(الكالاسي)!
أعتقد أنّ العراق اليوم، بحاجة إلى شعب ودولة، حتى يعود عراقاً!!