مطلع اذار الماضي , دعا رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي الى حوار وطني باعتباره السبيل الوحيد لبناء الدولة وتعميق قيمها وترسيخ مفاهيمها حتى تتمكن من النجاح، مؤكدًا أن الألم يجب أن يتوقف في العراق, وأضاف الكاظمي، «شعبنا تقاسم الأيام القاسية والحزينة». وقال: يجب أن يكون مستقبل أجيال شعبنا أفضل من ماضيهم، وأن مسؤولية هذا التحوّل تقع على عاتقنا وعلى كل متصدٍ للمسؤولية ,,وبالامس القريب نقلت صحيفه أسوشيتد برس نقلاً عن مسؤولين عراقيين ان الكاظمي ابلغ طهران كبح جماح الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، مؤكدا في رسالة شديدة اللهجة إلى طهران أنه سيواجه الفصائل, ونقلاً عن المسؤولين ، إن الكاظمي هدد في المذكرة “بالإعلان بوضوح عمن يدعم هذه الجماعات” وقال إنه مستعد لمواجهتها
لا تكمن أهمية دعوة الكاظمي للحوار الوطني في محتواها العام، إذ سبقتها على مدى السنوات الماضية دعوات مشابهة كثيرة من أطراف مختلفة حكومية وسياسية وشعبية، لكنها لم تحقق شيئاً ليلفها النسيان سريعاً ولتستأنف السياسة في العراق سيرتها المعتادة القاسية القائمة على الغلبة والاستئثار والصفقات النفعية القصيرة النظر التي يعقدها فرقاء سياسيون متنافسون على حساب مصلحة المجتمع ومستقبل الدولة. في عراق ما بعد الدفق الأول والهائل والمركزي لحركة احتجاجات تشرين، الذي استمر نحو سبعة أشهر استثنائية بين تشرين الأول/أكتوبر 2019 ونيسان/أبريل2020، الكل خائفون وقلقون ومرتابون بالكل: المجتمع يرتاب بكامل الطبقة السياسية، والطبقة السياسة خائفة وقلقة من رد فعل المجتمع نحوها، الحكومة قلقة من البرلمان ومرتابة به، وهذا الأخير يرد عليها بارتياب وقلق شبيه، والفصائل الولائية المسلحة ترتاب بجمهور المحتجين وتتعقب الناشطين المؤثرين منهم، فيما يقلق هذا الجمهور من هذه الفصائل ويطالب الحكومة بردعها. هذه الفصائل أيضاً ترتاب بالحكومة وتتحداها أحياناً، فيما قلق الحكومة من هذه الفصائل وارتيابها بها معلن أحياناً ويترجم بخطوات صغيرة نسبياً وغير معلنة ضدها أحياناً اخرى
حتى الأحزاب السياسية المتحاصصة في السلطة منذ 2003 تخشى وتراقب بعضها الآخر بقلق في إطار تنافس شرس بينها على النفوذ والموارد، فيما الارتياب المتبادل بين بغداد العاصمة والإقليم الكردي في الشمال راسخٌ وقديم، ومشهد النزاع بين الطرفين على ميزانية عام 2021 هو تكرار سنوي معتاد لهذا الارتياب الذي يُترجم الى تراشق سياسي موسمي وصل حد الملل الشعبي منه
استمرار هذا الارتياب المتعدد الأوجه بين هذه الأطراف المتصارعة الكثيرة، من دون وجود أفق مستقبلي لتنفيسه وحلحلة الصراعات المختلفة التي تغذيه، قد يقود البلد الى حافة الاحتراب عبر لجوء بعض الأطراف إلى العنف، أو تلويحها به (وبعض هذا التلويح حصل بضع مرات في الأشهر القليلة الماضية). بعد كل العنف المسلح، المتنوع الأشكال والأدوات والأهداف، الذي شهده العراق على مدى الثمانية عشرة عاماً الماضية، سيكون من الحمق الشديد انتظار شرارة تأتي على نحو مفاجئ غالباً، كي توقد نارَ عنف جديد لن يكون سهلاً اطفاؤه هذه المرة، خصوصاً بعد تراجع التهديد الارهابي القاعدي-الداعشي منذ عام ٢٠١٨، وهو التهديد الذي كان اساسياً في توحيد الأطراف السياسية المتصارعة خلف اجندة واحدة عليها اجماع شعبي وأخلاقي وسياسي: مكافحة الإرهاب
الفصائل المسلحة وبضمنهم السلاح المنفلت والذي يثير الفوضى في بغداد وبعض المحافظات ,والمتغلغلة في مؤسسات الدولة والمنافذ الحدودية ولديها سلطة المال والسلاح, شرعنة منتظمة، على أسس دينية وقانونية، للمقاومة كفعل مسلح ضد محتل أجنبي، فغالباً ما تتردد الجملة المألوفة أو إحدى تنويعاتها الكثيرة بخصوص أن المقاومة حق مشروع أقرته الشرائع السماوية والقوانين الدولية!! وعيهم ان يدركوا ان الوطن هو الانتماء- وان الحكومة الاتحادية هي الممثل الشرعي والقانوني للوطن وللشعب ايضا
فمطالبة القوى السياسية بـ “تغليب مصلحة الوطن والابتعاد عن لغة الخطاب المتشنج والتسقيط السياسي، وإلى التهيئة لإنجاح الانتخابات المبكرة، ومنح شعبنا فرصة الأمل والثقة بالدولة وبالنظام الديمقراطي” تبدو كلها أمنيات مشروعة لكنها تضيع بسهولة في غابة السياسة في العراق بصراعاتها العميقة ومنافساتها الشرسة التي تصل حد سفك الدم، إن بقيت بدون تفاصيل وآليات واهداف محددة وقابلة للتنفيذ ضمن إطار زمني معلن ومعقول