نتابع سنوياً عدداً من المعايير الدولية التي تقرأُ أوضاعَ بلدانِ العالم وظروف العيش فيها. فهناك مقياس لانتشار الإرهاب واستشرائه.. ومقياس للفساد واستفحاله.. ومقاييس أخرى متنوعة كثيرة تتضمن دراسة الأوضاع الصحية والتعليمية ومستويات الفقر والغنى والعدالة الاجتماعية وغيرها. وبجميع الأحوال فإنّ تلك المقاييس ومعاييرها، إنْ هي إلا محاولة لقراءة الواقع وتوفير فرص التنمية والتغيير لتحسين العيش والتقدم بأحوال الناس ومعالجة ما يؤذيها وإزالته.
وبقدر تعلق الأمر ببلدان الشرق الأوسط وموقعها دولياً في هذه المقاييس، فإنها عادة ما تكون في الصدارة في مشاهد الإرهاب والفساد والفقر والأزمات وفي المؤخرة في مشاهد الاستقرار والسلام والنزاهة والسعادة والرفاه. وعلى الرغم من الثروات المهولة التي تطوف عليها تلك البلدان بخاصة في مجال المعادن الطبيعية كالنفط والفوسفات والحديد وغيرها فإنّ شعوبها هي الأفقر…
والمشكلة اليوم أنّ هذي البلدان وبخاصة العراق ليست مسلوبة الثروة المادية حسب بل هي مسلوبة من ثرواتها الروحية حيث تمرير مشاغلة الناس بالطقسيات وآليات التفكير الأسطوري والخطاب البياني لا البرهاني. فالعلماء والأساتذة والمتخصصون تحت مقصلة الإرهاب والتصفيات الجسدية والإقصائية. ومن لا يُصفَّى يجري الضغط عليه بكل أشكال التعنيف والتهديد والإرهاب حتى يدفعونه للهجرة.. وهكذا فالبلاد تكاد تخلو من العقل العلمي ويجري محاولات تفريغها منه، مع التراجع بالخدمات الصحية والتعليمية الأمر الذي يحرمها من عنصر رئيس للتنمية والبناء والتقدم.
لقد سجل العراق في الأعوام العشر العجاف، تفرداً نوعياً غير مسبوق عالمياً.. حيث حافظ على مشهد الصدارة بكل ما له علاقة بتوصيف التخريب والدمار والتراجع وتردي الأوضاع. فالفقر ظاهرة ملازمة لأبنائه على الرغم من الفائض المدور لصادرات النفط طوال العقد المنصرم. والبطالة منتشرة بأشكالها الحقيقية والمقنّعة. والمشروعات الصناعية في تعطل تام حتى أن المصانع التي لم تُسرَق تصدّأت وتلفت والمواني في خراب واضح أما الأراضي الزراعية في بلاد السواد فهي البور المتصحرة بلا ماء وحصص العراق منهوبة بلا من يتصدى لاستعادة الحقوق!
لقد سجلت البلاد طوال هذي السنوات فوزها بأعلى نسبة من جرائم الإرهاب مرافقة لأعلى نسبة من جرائم الفساد وهي بين بلدان العالم بالمحصلة البلاد الأسوأ في مستوى سعادة (العباد).. إن أهلها بحال استعباد من قوى الطائفية وميليشياتها بجناحيها اللذين لا يحتربان مباشرة بل يستغلان أتباع المذاهب في حربهما.. والشعب هو الضحية مرة في اقتتالهما لاقتسام الغنيمة ومرة بعد سرقة الثروة ونهبها بلا كسرة الخبز النظيفة؛ إذ يجري لا تأخير الرواتب وقطع أرزاق الناس بل حرمانهم من حقوقهم في ثروة البلاد بشكل تام!
لقد جاء تسلسل العراق في مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2014 الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام في المرتبة الأولى من بين 162 دولة. أيّ أنّ العراق احتل مؤخرة القائمة لبلدان العالم في الاستقرار والأمن والأمان. ولا مجال لوضع علامة تعجب في ضوء قراءة ما يجري من جرائم إرهاب ليس في المساحات التي انهارت بها سلطة الدولة وسلمت الحكومة الاتحادية السلطة فيها لشراذم الجريمة الإرهابية ومرتزقته بل وفي مجمل المحافظات التي تتبع سلطة تلك الحكومة واستراتيجيتها الملأى بالخروقات والثغرات.
ويمكننا القول: إنَّ تمويل الإرهاب في البلاد قد جاء من دم المواطنات والمواطنين ومن استرقاقهم واستعبادهم والاتجار بهم بسوق نخاسة الفساد المستشري؛ الفساد الذي وضع العراق في تسلسل الأوائل عالمياً أيضا. إنّ المتحكم حالياً في الحكومة الاتحادية وبنيتها صار أقرب إلى أن يوصف بكونه نظاماً كليبتوقراطياً. ذاك النظام الذي سيبقى نبعاً يموّل الجريمة بالاستناد إلى دور مميز ورئيس لفلسفةٍ طائفية تتحكم بتقسيم المجتمع وشرذمته ومزيد تفكيك فيه.
لقد حلَّ العراق اليوم أيضا، في ذيل ترتيب قائمة دول العالم الأكثر سعادة ليكون في المركز 112 عالميا بحسب مؤشر السعادة للعام 2015 وشمل تقرير [WORLD HAPPINESS REPORT 2 0 1 5] الذي أصدرته الأمم المتحدة 158 بلداً، وجاءت فيه سويسرا بالمركز الأول وجاءت بهذا المركز [الأول] عربياً دولة الإمارات، التي احتلت المرتبة العشرين عالمياُ. بينما كانت إسرائيل في المرتبة [11] وهو أفضل مركز لدول الشرق الأوسط على وفق تقرير الأمم المتحدة.
أما ما يستند التقرير إليه من أجل وضع تصنيف الدول على النحو [السعيد] فيتمثل بعدة عوامل أبرزها: إجمالي الناتج المحلي للفرد، ومتوسط عمر الفرد ومستوى الصحة وجودتها ومقدار الدعم الاجتماعي المقدم للفرد ودرجة سيادة النزاهة أو انحسار الفساد وزواله في المؤسسات العامة والخاصة، فضلا عن مستوى حماية الحرية الفردية وحقوق الفرد العامة والخاصة ومقدار تمتعه بالرفاه .
والسؤال: إلى أيّ مدى يجري احترام الإنسان وحقوقه وحرياته ويُمنح فرص تمتعه بثروات الوطن؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتوافر فرص العيش بما يلحق بمواطني الدول العشرة الأكثر سعادة في العالم أي: سويسرا، آيسلندا، الدنمارك، النرويج، كندا، فنلندا، هولندا، السويد، نيوزلندا، أستراليا؟ وللإجابة سنرى أنّ المتحكمين الطائفيين يواصلون القول: إنهم يمثلون الله وعدالته فيما تمثل تلك الدول الكفر بالله!! فأين الحقيقة؟ واين الإجابة التي ستغير من موقع العراق في الترتيب العالمي ومن وضع العراقيين بين شعوب العالم؟ أهي بادعاء تمثيل الله على الأرض ممن يتحكم برقاب الناس ويحيلهم إلى عباد أم ممن ينعتق الناس معهم ويمارسون حرياتهم ويتمتعون بوجودهم ويعيشون إنسانيتهم؟
تلك هي قضية موقعنا في الترتيب العالمي بين شعوب العالم في جوهرها. وذلكم هو ما تفضحه قضية التسلسل الذي نحتله سنوياً وصار ملازماً ثابتاً لنا بظل نظام الطائفية وبنيتها المنقسمة على جناحين ولكنها المتحدة بنظامها المشحون إرهاباً بعنفه والمنتفخ بفساده بما يوقع آثار الجريمتين على الناس بكل نتائجها الكارثية..
إذن، ما الطريق إلى الخروج من دائرة الإرهاب والفساد؟ ربما الإجابة العقدية لا تخرج على منطق واحد؛ إنه منطق الإيمان بأن عدو العراق والعراقي هو تحالف (طائفية فساد إرهاب)، ومن دون الخلاص من التقسيم الطائفي وسطوته على عقول الناس ومن دون الخلاص من بيع الذمم وشرائها، لن يتم الخلاص لا من تشكيلات وشراذم الجريمة ومرتزقتها ولا من السرقات الفلكية الأكبر بعصرنا، بالإشارة إلى ضياع حوالي ترليون ونصف الترليون من الدولارات بلا ما يسد بطون الجياع أو يشغّلهم ويستثمر طاقاتهم بمسيرة التغيير. وطبعا لن يستطيع العراقيون الخروج من ترتيبهم في قوائم الفساد والإرهاب بخاصة في ظل استفحال آليات الفساد وتمترسها وتحولها إلى نظام متكامل متجذر وفي ظل استفحال العنف ووحشيته من ثقافة الفعل ورد الفعل بين خندقي الطائفية اللذين صُنعا لإشعال نيران الاحتراب وإدامتها..، ما لم يجدوا برامج عملية للتغيير وليس مجرد أمنيات وأحلام بقظة…
ولا مفر هنا من معالجة برامجية يمكنها أنْ تطهرنا من التشوهات والإصابات التي وقعنا فيها عبر تضليل الخطاب الطائفي من جهة وما استغله فينا من الجهل والتخلف ومن سطوة العنف وتخريبه ثقافة التسامح وأيضا من اختلاقه فجواتٍ ومتاريس بين العراقي ونفسه وبينه وبين أخيه؛ الأمر الذي جاء بطريقة الاستغفال ومن ثمّ التبعية والانقياد لطائفي مرَّغ وما زال يمرغ كرامتنا بالتراب واستباح وجودنا الإنساني بذريعة مكافأتنا في العالم الآخر..
هذا العالم الموعود لا يمكنه أن ينبني على خرافةِ كُن فاسدا خانعا لمرجع طائفي يدعي قدسيته لتحظى بالآخرة!!! فالله جميل يحب الجمال وهو العدل، السلام وليس الظلم ولا الوحشية ولا افتقاد السلام.. وإلا فأي عقل في هذا القرن، قرن التنوير والعقل العلمي، يمكنه أن يسترخي لهذه التبريرات ويضحي بوجوده لأجل خرافة الطائفي وفساده!؟
من أجل أن يكون العراقيون هم الأسعد، ومن أجل أن يتمتعوا بثرواتهم، ومن أجل أن ينعتقوا من الإذلال والاستعباد، لابد أن يزيحوا منطق الطائفية من تفكيرهم ومن دواخلهم وأنفسهم.. وحينها فقط سيدركون أن بديلهم لحياة حرة كريمة ليس في قضاء أعمارهم يتناهبون لقمة العيش بالخضوع لبرامج ثلاثي (الطائفية الفساد الإرهاب)… بل في الانعتاق من هذا الثلاثي ليكونوا لأنفسهم. إنهم أي العراقيون مَن سيبني جنانهم وبيئة العيش لهم ولأبنائهم، مثلما كل شعوب الأرض. وإلا فإنهم لا يخسرون أنفسهم حسب بل ويهبون الأبناء والأجيال التي ستأتي لعالَمٍ مباع بلا مقابل للمجرم ودناءاته!!
ذلكم هو ترتيب البلاد دولياً وتلكم هي حال العباد إنسانياً!؟ لكن الثقة التامة أن العراقيين ما زالوا يمتلكون قدرة التغيير في أنفسهم وفي محيطهم.. لذا انهوا التردد في رفض هذا الموقع السلبي المرضي الخطير الذي وُضعتم فيه بين شعوب الأرض وفي قوائم عالمنا المعاصر. وسيأتي السلام بالعمل وبالفعل يتقدم من أجل البناء. وإذا كانت يوماً بغداد تُسمى دار السلام وكانت أرض العراق تسمى أرض السواد، فإنّ ذلك ممكن الاستعادة بفضل شعب العراق نفسه، وهو يستعيد مسيرة الإعمار والتنمية والتقدم، لتخضوضر أرضه مجددا ببساتين المحبة والتسامح والسلام وليحيا بسعادة ويحتل موقعه بين الشعوب بمقدار تمسكه بالمنطق الذي يحقق الانعتاق والتحرر والحصول على حقوقه وحاجاته.