في زمن الأحباط وفوضى الفساد والإرهاب وسوء الفهم وارباك المواقف وغموض الرؤى حول المفهوم الوطني للعراق الواحد, تكتسب المراجعة والبحث وتشخيص اولويات اعادة البناء اهمية استثنائية, هناك من يدعو الى الأقلمة من دون ان يمتلك تصوراً ناضجاً للأحتمالات والنتائج المستقبلية, هناك من يدعو للوحدة الوطنية في واقع مشبع بنزعات التجزئة والتقسيم, هناك من يراوح في دائرة الفراغ الذي احدثته الهويات الفرعية وعمقت فيه جراح العزل النفسي والثقافي والجغرافي من داخل المجتمع وتراكم حتميات الأمر الواقع الثقيل على انفاس الهوية الوطنية المشتركة.
ونحن نضرب على طبول مثقوبة في عزف وحدة مكونات الأمة العراقية وصراخ الأسى يمزق حناجرنا, استطاعت مقبولية التقسيم وشراسة المنطق الخياني ان تدفع بنا الى رمي تراب اصواتنا الإنتخابية في حفرة يرقد فيها جثمان الهوية الوطنية, نبتسم سذاجة ونثرثر صمتاً, فاقدي الرشد نبحث عن سراب اخضر نتوهمه علفاً مباركاً يتكرم به اولياء الأمور.
هل توقف النفس الأخير للهوية العراقية وانقطع آخر خيط من نسيجها وتوارت العراقة التاريخية في جيب مشروع 09 / نيسان / 2003, ام انها الآن تتوسد النصوص التوراتية, هل ادركنا يقيناً, مع اي اسلام نحن ومن منا على الصراط المستقيم او على الأعوج منه … هل أن جينات هجين الدواعش إسلامية حقاً, ام انها امريكية صهيونية اسلاموية, هل في الأمر كذبة تاريخية بحجم الدماء والكوارث والمعاناة, تسللت إلينا من خارج تاريخنا..؟؟ لا نعلم وقد سئمنا فراغ الأسئلة وعبثية الأجوبة التي لا مصدر موثوق لها, اصبحنا نحسد البهائم تعيش يومها بين امس وغد كحل امثل, ننظر حولنا لنتأكد, اين ومن نحن.
حتى لا نعوم بعيداً عن شواطىء الواقع العراقي الموحل بالغموض وفوضى التمزق, علينا ان نمسك الممكن فيما يتعلق بأحلام اعادة لحمة النسيج الوطني الى عهده الذي كان, نعيد تفسير واقعنا ونعد مفترقات الطرق وانتساب الهويات الفرعية التي تعملقت وتفارست اشلاء الهوية الوطنية الجامعة, نتواضع لنبدأ من نقطة الراهن لأعادة ترتيب الأوراق المبعثرة للمشروع الوطني العراقي, انها محنة وعقدة الثلاثي الذي وضع (رُكّب) العراق عليه ثم اشعلت حرائق الفتن والتقسيم والتقاسم تحته, الفساد والأرهاب والعمالة ورذائل الخيانات, مشتركات يتوافق حولها مثلث المأزق العراقي.
الوحدة الوطنية والهوية العراقية القادمة عبر التاريخ الحضاري, حقائق لا غبار عليها, نراها الآن على طاولة الأمر الواقع تشظيات للثلاثي الكريه:
1 ـــ المتغول الكردي المتكلس حول صخرة المستحيلات القومية واوهام التوسع الأستيطاني على امتداد الشريط الفاصل بين ايران والعراق حتى شط العرب منفذاً له على الخليج, يرافقه انتفاخ في الخاصرة الشرقية للعراق, من يصدق مثل هذا الأستخراف الجنوني للعائلة البرزانية الماسكة بعنق المحافظات الشمالية الثلاث, والتي وضعت السرج على ظهر عراق الأسلام السياسي, يمكن له ان يكون شريكاً في المشروع الوطني او طرفاً غير ضار في وحدة مكونات المجتمع, من يعتقد ذلك كمن “يريد من بارح مطر” وحتى لو سقط رذاذ, صدفة ام مكيدة فأنه الغيث الذي “لا يبقي ولا يذر” انهم (الكرد) بحاجة الى ان يستذكروا الدروس بعد ان يصهرهم لهيب التجربة, ليصبحوا من الممكن تعديل اعوجاجهم القومي ليدخلوا ثقب الشراكة بسلام, انه مستحيل المستحيلات .
2 ـــ الأحزاب الشيعية, تلك التي وضعت سلاسل الجهالة في اقدام عقل عراقيي الجنوب والوسط وافرغوا الملايين من روحها وواجباتها النهضوية وغيبوا المعنى التاريخي لأنجازاتها الحضارية وشوهوا فيهم المعاني الوطنية الأنسانية للهوية العراقية, مشروع استغباء واستغفال وتغييب واعادة فصال اكثريتهم العددية والنوعية ذات الأرث الحضاري, اقلية على مقاس تفاهتهم وضحالتهم وضيق افقهم الطائفي, منطق مدمر اكتسب شكل الحقائق من داخل خرائب الذاكرة العراقية, انهم يعانون عقدة الشك بأنهم عراقيون فأستحسنوا الأستجمام في مستنقعات الفساد ورذائل الخذلان , رموز الأحزاب الشيعية تحاصر اشباح بعضها في عتمة الأدلجة والأختناق والوقيعة, عراقيو الجنوب والوسط وحتى يصبحوا مؤهلين لأسترجاع ذاتهم وادوارهم ورسالتهم, عليهم ان يخلعوا رداء الطاعة لغير الله .
3 ـــ الأغلبية المتمردة من داخل مجتمع المحافظات الشمالية الغربية التي تشكلت قياداتها السياسية من بقايا البعث المعروفة بدمويتها, لا زالت غارقة في اوهام استعادة السلطة عبر قلب الواقع الذي قد تجاوزها اصلاً ولم يعد فيه مكان لها سوى بعض الأختراقات من داخل الأحزاب الشيعية, البعثيون الآن طارئون غير مرغوب فيهم مجتمعياً, يتطفلون حول طاولة 09 / نيسان / 2003 بينما المدعويين قبلهم قد نظفوا انيابهم بعد ان اكملوا افتراس الوليمة , انهم فقط يمتلكون مبادرة سفك دماء الأبرياء, في جميع الحالات ــ مع احترامنا ـــ للقليل المتبقي من وطني المحافظات الغربية, فالراهن من واقعهم لا يسمح لهم ان يكونوا عنصراً ايجابياً في اعادة بناء الدولة والمجتمع والألتزام بالوحدة الوطنية, هم الأنحراف الذي لا يستقيم اعوجاجه, مخادعون يخدعون حتى انفسهم, رفاق درب لا يؤتمنون, ملتبسون من داخلهم غير واضحون مع الآخر, غاياتهم دائماً كريهة تتسم بالغدر والوقيعة, قد يطول بهم الألتباس وفوضى الغموض وستكون ادوارهم ذيلية مستأجرة وعائق يجب الصرامة معه في المرحلة الراهنة على الأقل, ممثليهم في العملية السياسية ملوثون بالسلوك البعثي والشفاء منه يحسب على المستحيلات غلطة, من يبحث فيهم عن حلفاء وشركاء, كمن ينشد العافية من مراضع النمل .
العراق الذي نريده, نسترجعه مسروقاً ونطلقه سجيناً, ونحرره مكبوساً في سراديب التجهيل, نريده يتقدم, لا تقبع في طريقه عثرات التخلف الأنحطاط, الثلاثي الراهن للفساد والأرهاب والتبعية والخيانات, كل منه لا يستقيم بدون توأميه, كلهم يكتملون بكلهم, لا يصلحون بمطلقهم ان يكونوا طريقاً للعراق الذي نريد .