هو الذي رأى كل شيء فغني باسمه يابلادي … هكذا بدأت أقدم الأساطير الشعرية التي عرفتها البشرية ، والتي أنتجتها العقلية العراقية … لتؤكد حقيقة أزلية ، تبين عراقة وقدم هذه البلاد … التي تغنت بكلكامش مليكها الذي رأى كل شيء جميل على أرضه الخالدة حتى عشقها ، فأبى ان يفارقها ، تحت وطأة الموت فارتحل عنها باحثا عن الخلود ، ليعود اليها بعد رحلته الطويلة المضنية خاليا الوفاض ، إلا من بديهية قد غيبتها عنه نشوة الملك وسطوته ، وهي … أن لا خلود إلا لهذه البلاد وعراقيتها … يعتبر العراق من أولى الحضارات التي نشأت على هذه الأرض ، وقد عرفت قديما ببلاد مابين النهرين ، حيث ورد هذا الاسم لأول مرة في الكتاب المقدس العهد القديم (التوراة ) … باسم ( شينا نار أو شينعار ) وشينا تعني اثنان ونار تعني نهر ، أي بلاد النهرين ، في إشارة إلى الإمبراطورية الاكدية التي أقيمت في وسط العراق في الألف الثالث قبل الميلاد وعاصمتها أكد واستمرت أكثر من مئة وخمسون سنة ، وهي أول إمبراطورية عرفتها البشرية ومؤسسها هو الملك سرجون الاكدي … وقد قسم المؤرخ اليوناني هيرودتس العراق القديم إلى قسمين تبعا للموقع الجغرافي وطبيعة الحضارة التي انشات عليه ، فأطلق على القسم الجنوبي من السهل الرسوبي اسم بابيلونيا وتعني باللغة البابلية باب الإلهة ، وأطلق على القسم الشمالي من السهل الرسوبي اسم أشور … أما تسمية بلاد مابين النهرين فقد ظهرت أبان حكم الاسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد ، وهناك أراء تقول إن أول من أطلق مصطلح ميزوبوتاميا على العراق هو المؤرخ اليوناني ( يوليبوس ) في القرن الثاني قبل الميلاد والذي يعني باللغة الإغريقية ( بلاد مابين النهرين )…إلا إن العالم الألماني فالكنشتاين رجح أن تكون جذور هذه التسمية أقدم من عصر الاسكندر المقدوني بكثير ، ونسبها إلى تسمية أكدية قديمة لهذه البلاد هي ( بيت ناريم ) وتعني باللغة الاكدية شبه جزيرة نهرية … وأما تسمية (عراق) فقد اختلف المؤرخون في تاريخ ومعنى هذه التسمية ، اعتقد الكثيرون منهم بان أصل التسمية يعود الى تراث لغوي قديم ، أصله سومري ، ومن أقوام آخرين من غير السومريين كالساميين الذين استوطنوا السهل الرسوبي منذ ابعد عصور ما قبل التاريخ ، وان (عراق) مشتق من كلمة تعني (المستوطن) … ولفظها (أورك (… وهي الكلمة التي سميت بها المدينة السـومرية الشهيـرة الوركاء ، وقد ذكرت مدينة أورك في ملحمة گلگامش حيث قام گلگامش ببناء سور حول المدينة و معبد للآلهة عشتار ، ،و يرى البعض إن العراق مصدرها ( العروق ) نسبة إلى النهرين العريقين ، دجلة و الفرات اللذين ولأهميتهما شبها بالعرق او الوريد ، ويرى البعض الأخر ان البلاد سميت بالعراق نسبة إلى ( عروق أشجار النخيل ) التي تتواجد بكثرة في جنوب ووسط العراق ، حيث يعود تاريخ النخلة إلى العصور السومرية القديمة … يقول جيمس هنري براستد في كتابه العصور القديمة …( ولا عجب في خصبه لأنه متكّون من رسوب الأتربة التي تحملها مياه النهرين العظيمين كل سنة وتلقيها عليه ، انه بالفعل قلب الهلال الخصيب ) … وهناك رأي اخر يشير الى إن أصل التسمية هي (عراقة) المنطقة الموغلة بالقدم … وذكرت مفردة عراق بكثرة في الشعر الجاهلي عند العرب ، كما في قصة الشاعر الجاهلي عنترة العبسي والنوق العصافير ، فانه عندما طلب الزواج من ابنة عمه عبلة اشترط عليه عمه صداقا من ابل النعمان المعروفة (بالعصافير) فذهب إلى العراق وسجن … وفي ذلك يقول ….
طغـاني بالريا والمكر عمي … وجار عليَّ في طلب الصـداق
فخـضت بمهجتي المنايـا … وسـرت إلى العراق بلا رفـاق
والعـراق في (معجم العين) للخليل بن احمد الفراهيدي ، يعني شاطئ البحر ، وسمي عراقا لأنه على شاطئ دجلة والفرات حتى يتصل بالبحر على طوله ، وأهل الحجاز يسمون ما كان قريبا من البحر عراق .. .وفـي (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي ،( سمي عراقا لمصب المياه إليه كدجلة والفرات وغيرهما من الأنهار) ، ويظن المسعودي انه مأخوذ من عراقي الدلو وعراقي القربـة … فالعراق هو مساحلة النهر بالبحر … يقول مليح الهذلي ….
تربعت الرياض رياض عمق … وحيث تضّجع الهطل الجرور
مساحلة العراق البحر حتــى رفعن … كأنمّا هّن القصـــور
وقد أطلق العرب على هذه البلاد تسمية أخرى نتجت عن طبيعة الاختلاف البيئي والجغرافي لأرض الجزيرة العربية الصحراوي في غالبه وطبيعة العراق الذي كانت تغلب عليه البساتين والخضرة ، فأسموه (ارض السواد) ، وهذا الاسم يعد من أقدم الأسماء العربية التـي تطلق على الأرض الرسوبية على ضفاف دجلة والفرات … كما جاء في كتاب الباحث العراقي سالم الالوسي (اسم العراق أصله ومعناه عبر العصور التاريخية )… حيث قال … ( وقد أطلق عليها هذا الاسم كما يبدو للعين من التفاوت بينها وبين صحراء العـرب وكلمة (السواد) اذا سبقت اسم مدينة من المدن كان معناه الحقول المزروعة على نطاق واسـع في أراضيها التي تروى ريا منتظمـا و (السواد) في أكثر معاجم اللغة جاء بمعنى (الخضرة) ، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري من الماء ،والسواد هو من ارض العراق ، سمي سوادا لسواده بالزرع والأشجار لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي يقل الزرع فيها والشجر كانوا قد خرجوا من أرضهم إليه ، أي إلى السواد ، ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار ، ولهـــذا سموا خضرة العراق سـواد ).. . ووردت تسمية قديمة في كتب التاريخ والأدب العربي والإسلامي هي (العراقان ) … وقـد ظهرت أول مــرة في العصر الأموي حيث أطلق على كل من البصرة والكوفة تسمية العراقان ، لأنهما عاصمتا البــلاد ومن أقدم حواضره الإسلامية … وقد ذكر الطبري في كتابه ( تاريخ الأمم والملوك ) ، رواية تشير الى هذه التسمية ، عندما ولى معاوية بن ابي سفيان زياد ابن أبيه على الكوفة و البصرة بعندما توفي المغيرة بن شعبة والي الكوفة …وذكـر الزمخشري إن (العراقين) هما الكوفة والبصرة … وإثناء الاحتلال السلجوقي للعراق سنة 447 هجرية اطلقوا على المناطق الوسطى والجنوبية منه ( العراق العربي ) ، وأطلقوا اسم (عراق العجم ) على القسم الشمالي منه أو ما يعرف ( ميديا ) أي إقليم الجبال ، في إشارة إلى الأقوام الغير عربية التي كانت تقطنه… وقد احتل العراق قلب العالم القديم حيث يذكر اليعقوبي في كتابه ( البلدان ) … (إنما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا وذكرت بغداد لأنها وسط العراق والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبرا وكثرة مياه وصحة هواء لأنه سكنها من أصناف الناس وأهل الأمصار والكور وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الأفاق على أوطانهم … بسبب فضل العراق وجلالتها وسعتها ووسطها للدنيا ) … ان العراق على امتداد تاريخ الموغل بالقدم وحتى سقوط بغداد بيد الأمريكان عام 2003 ميلادية ، لم يعرف التقسيم على أساس عرقي أو ديني أو طائفي أو جهوي … ولم يعرف غير التقسيم الإداري أثناء الاحتلال العثماني له سنة 1534 ميلادية وأصبح ضمن تشكيل نظام الشرق الذي كان وراء تأسيسه السلطان سليمان القانوني ، حيث قسم إلى ولاياته الكبرى الثلاث الموصل وبغداد والبصرة ، وهي الأقاليم الإدارية التي دامت حتى الاحتلال البريطاني ، وخلال تلك الحقبة كانت مصالح العراق مشتركة بين الولايات الثلاث التي يربطها كل من دجلة والفرات … ولقد تعززت الروح العراقية وترسخ مفهوم المواطنة والتعايش السلمي عند العراقيين بسبب استقرارهم ، والفتهم له وتوطنهم فيه واكتسابهم ألوانه وخصائص بيئته وكل جمالياته ، كونه أصبح يمثل استمرارا لجودهم والركيزة الأساس لهويتهم ، وهذا التجدر بالانتماء هو الضمانة التي ستقف بوجه كل الادعاءات المغرضة بتبعية العراق لهذه الدولة أو تلك ، وستخرس كل الأصوات المنادية بالتقسيم والأقلمة على أساس عرقي أو طائفي .