إن ما يغطي المنطقة حاليا هو الشعور بالكآبة أو كما قال كاتب لبناني إن الخرائط تداخلت بشكل عبثي. ففي سوريا مثلا لم نعد نعرف كم حزبا وكم ميليشيا تقاتل هناك. المنطقة تدخل في سرداب مظلم لا تبدو له نهاية وشيكة.
يبدو الطريق طويلا للوصول إلى حلّ في المنطقة. صحيح هناك جولة لوزير الدفاع الأميركي الجنرال جيمس ماتيس شملت عدة محطات أهمها السعودية. صرح الجنرال بأنه يرى بوضوح العبث الإيراني بالمنطقة ودعم الإرهاب. كذلك رأينا وزير الخارجة الأميركي ريك تيليرسون يتهم إيران مؤخرا بالتحريض على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وتقويض المصالح الأميركية في المنطقة. لكن هذا لا يعني أن الحلّ قادم بعد شهرين.
إن ما يغطّي المنطقة حاليا هو الشعور بالكآبة أو كما قال كاتب لبناني إن الخرائط تداخلت بشكل عبثي. ففي سوريا مثلا لم نعد نعرف كم حزبا وكم ميليشيا تقاتل هناك، وهل هي ضد النظام السوري أم ضد بعضها البعض. المنطقة تدخل في سرداب مظلم لا تبدو له نهاية وشيكة.
بدأت السياسة الأميركية تفهم بأن إيران تهيمن وتدير منطقة واسعة من طهران إلى لبنان عبر طريق بري واحد. كل شيء مترابط في الشرق الأوسط فقد يؤدي الضغط في اليمن إلى تحريك إيران للشيعة في البحرين، وكذلك الضغط على النظام السوري قد يدفع إيران إلى استخدام الميليشيات الشيعية المسلحة وتفجير العراق.
إيران لها أذرع كثيرة في عدة دول عربية ولكن مركزها وقاعدتها جميعا هو العراق. ورغم ما نراه من مواقف شجاعة لرئيس الوزراء حيدر العبادي تحافظ على مسافة مقبولة من إيران، وكذلك تصريحات الزعيم الشيعي مقتدى الصدر التي تتقاطع مع السياسة الإيرانية إلا أن كل ذلك على السطح فقط. النفوذ الإيراني قد تمكن من الدولة العراقية العميقة والمجتمع.
واحدة من أفكاري هي أن الدولة القومية في العراق قد انهارت منذ عام 1979 وليس باحتلال العراق عام 2003. فالدولة العراقية منذ تأسيسها وحتى عام 1979 كانت تسعى إلى ترسيخ نفسها بالمواطنة والعيش المشترك وتخطي الماضي العثماني والصفوي الذي استمر لقرون طويلة. الذي حدث عام 1979 هو انفجار الثورة الإسلامية في إيران وصعود آية الله الخميني إلى الحكم.
العراق وإيران دولتان جارتان بينهما حدود برية منبسطة طولها 1300 كم والتقارب الثقافي والمذهبي لا يمكن إنكاره. نصف الشعب العراقي شعر بهزّة تاريخية حين صعد الخميني إلى الحكم في إيران، فهو يقترح على الشيعة هوية جديدة وأن يكونوا طليعة الثورة في العالم الإسلامي. القيادة العراقية فهمت أن الخميني سوف يبتلع العراق منذ 1979 وحاولت السلطة العراقية ذات القيادة السنية أن تجد حلولا سريعة. إعلان الحرب على إيران عام 1980 وتهجير العراقيين من أصل إيراني، حصار حوزة النجف وعقد تفاهم مع زعيمها السيد أبي القاسم الخوئي، إعدام السيد محمد باقر الصدر ومطاردة الناشطين الشيعة، إضافة إلى منع السياحة الدينية من العراق إلى إيران وبالعكس مع محاصرة الطقوس والاحتفالات الشيعية داخل العراق.
حاولت الدولة القومية العراقية بكل الوسائل مواجهة العاصفة الخمينية دون جدوى. في النهاية فقدت الدولة العراقية توازنها وصارت غارقة بالاتهامات والجرائم والوسائل القمعية حتى وجدت نفسها تتخبّط وتقوم باحتلال دولة الكويت عام 1990 وتتعرض لهزيمة عالمية وعقوبات دولية. وهكذا انهار العراق القومي منذ ذلك التاريخ.
فشل السنة في قيادة العراق خارج عن إرادتهم. إنه متعلق بانقلاب تاريخي متمثل بظاهرة الخميني في دولة أكبر وأهم من العراق بكثير هي إيران. ومنذ سقوط الدولة القومية العراقية نهائيا عام 2003 والعراق دولة شيعية بواجهة ديمقراطية وهمية.
عانى المجتمع السني العراقي التهجير والإبادة والسجون والتعذيب والاغتصاب حتى انتهى به المطاف إلى احتلال حواضر مهمة كالأنبار والموصل بيد الإرهابيين الدواعش. بعد كل هذه الدماء تبدو الولايات المتحدة اليوم وإدارة الرئيس ترامب أكثر تفهما.
حاول وزير الخارجية السعودي خلال السنوات الأخيرة بكل ما عنده من مواهب أن يقنع العالم بأن إيران تمثل المحرك الرئيسي للإرهاب في المنطقة.
ويبدو أن جهود الوزير السعودي في أعلى المنابر والمحافل العالمية قد أثمرت في النهاية. انتهى ذلك التضخيم الإعلامي العربي للتطرف السني وصارت الظاهرة مفهومة تماما ويبدو أننا في طريقنا نحو الحل.
نحن نرى في عودة القوات المسلحة الأميركية إلى العراق بالآلاف من الجنود، تحذيرا للقادة السياسيين في العراق من السفر إلى إيران، ومنع الميليشيات الشيعية من دخول الموصل، ورفض تدخل قادة الميليشيات المسلحة بالسياسة العراقية، واهتمام الجيش الأميركي بالطريق الواصل بين الأردن وبغداد عبر الأنبار، وتشجيعا لدور سعودي في العراق، وانتشارا عسكري أميركيا واضحا في محافظة ديالى المتنازع عليها، والتي تقوم الميليشيات الشيعية فيها بعمليات خطف واغتيال وتهجير للسنة.
وعلى الصعيد الإقليمي شكّل ضرب الصواريخ الأميركية لرادارات ومحطات الصواريخ الحوثية باليمن، وكذلك الضربة الصاروخية لطائرات النظام السوري ومطاراته رسالة قوية لموقف الولايات المتحدة الواضح إلى جانب حلفائها في الخليج والرافض لسياسات إيران التوسعية والإرهابية.
الدولة القومية العراقية انهارت منذ صعود الخميني، وما تلا ذلك من رفسات عراقية وحروب لا يعدو كونه حالة تخبط لدولة صغيرة تقسّمها طائفيا دولة أكبر منها وتجعلها في أزمة ثقافية عميقة.
لقد لاحظنا الانهيار الهستيري في العراق بعد صعود الخميني حيث الأناشيد وتمجيد القائد والمبالغة في الهيمنة الحزبية والمخابراتية مع عسكرة مطلقة للبلاد. الضمير الباطن للدولة العراقية يعرف بأن الخميني قد فجّر مشكلة الشرعية والولاء والموقف من الدين والمواطنة بوقت واحد في العراق.
وهكذا بقي العراقيون يدفعون الثمن من عام 1979 وحتى تاريخنا هذا 2017 فالمشكلة ما زالت نفسها. كيف يمكن بناء دولة وطنية في العراق وإلى جواره دولة ضخمة تاريخية تدعو إلى الولاء الشيعي وتصدير الثورة وتزرع الأتباع السياسيين والميليشيات المسلحة؟
وهنا جاءت الفكرة بعزل إيران من خلال تحالف عربي وإسلامي تقوده السعودية حتى تتراجع عن سياستها وتتحول من “ثورة” إلى “دولة” طبيعية تحركها المصالح واحترام القانون الدولي.
المأساة في العراق أن السنة استفادوا من العقود الطويلة التي حكمت فيها الدولة القومية ونشأت عندهم طبقة من المتعلمين والتجار والإداريين.
رغم كل المصائب يبقى السنة طائفة منظمة ذات بناء اجتماعي قوي. بينما عانى شيعة العراق من الجهل والخرافات وإهمال التعليم.
هناك الملايين من الشباب السائب اليوم الذي ولد ونشأ بطريقة عشوائية. هذه الآلاف المؤلفة من المنسيين تم انضمام بعضها إلى الميليشيات الإيرانية وتعلم القتل والجريمة وحمل السلاح. خطر بشري دوغمائي تخشاه المنطقة.
نقلا عن العرب