إنها لغة الإحصاءات، وليس حديث العواطف. بلغة الأرقام تفوقت الأمة العراقية على كل أمم الأرض، وبلغة الواقع أثبتت الدولة العراقية إنها على رأس الدول الناجحة عالمياً. رغم كل الإخفاقات والصعوبات والمحن والإشكاليات في المجالات الأخرى؛ الخدمات، البطالة، الأمن … الخ من القائمة التي تطالعنا صباح مساء؛ حقاً أو باطلاً، وتزيدنا يأساً وإحباطاً، وجلداً للذات وتقريعاً للنفس. ولكن مراسيم أربعين الإمام الحسين؛ ثؤكد عاماً بعد آخر آن العراق يحمل قدرة ذاتية هائلة على إدارة الأزمات، وعلى إنتاج الصمود والصبر، وعلى التكافل والتعاضد والتعاون، وعلى حسن الإدارة والتدبير؛ بشكل يندر مثيله في التاريخ والجغرافيا؛ إن لم نقل ينعدم.
أمة مجروحة ودولة محاربة؛ يحققان سنوياً أعظم إنجاز تنظيمي ومالي وإداري، وأروع تكافل وتعاضد بين الجمهور والجيش والشرطة والحشد الشعبي والإدارات المحلية ومؤسسات الحكومة المركزية. كلهم متكافلون متعاونون بمنهجية متفردة إنسانياً ووطنياً؛ كأنهم لوحة متناسقة تتكامل في مضامينها وألوانها؛ لينتجوا نجاحاً ساحقاً في مجالات التنظيم والإدارة الأمنية والمالية والغذائية والخدمية واللوجستية.
بلغة الأرقام: العراق أمة نفوسها 36 مليون نسمة تقريباً. من تعنيهم مراسيم أربعين بشكل مباشر هم أتباع أهل البيت الذين يقدر عددهم بحوالي 23 مليون نسمة. من مجموع هذه الكتلة الإنثروبولوجية؛ يشارك حوالي 16 مليون نسمة في هذه المراسيم؛ بمعدل 45% من نفوس الشعب العراقي، و70 % من عدد شيعته. يضاف اليهم حوالي 4 ملايين غير عراقي يفدون من أكثر من 50 دولة؛ ليصل مجموع المشاركين في المراسيم لعام 2015 هو 20 مليون إنسان؛ رجل وإمرأة وطفل ؛ موزعون على 2000 كم هو طول المسيرات التي تمشي فيها هذه الجموع البشرية الهائلة على أقدامهم؛ منطلقين من حوالي 500 مدينة ومنطقة من أقصى جنوب العراق الى أقصى شماله. تستمر المراسم حوالي 15 يوماً؛ تقدم فيها يومياً مايقرب عشرة ملايين وجبة طعام
مجانية؛ أي مايقرب من 100 مليون وجبة طعام مجانية خلال المراسيم. فضلاً عن 600 مليون لتر من الماء، وأكثر من 400 مليون قنينة من مختلف أنواع المشروبات، وأكثر من عشرة ألاف طن من الفواكه؛ كلها تقدّم مجاناً. ويبيت في كل ليلة في طريق المسيرات أكثر من خمسة ملايين إنسان؛ بما معدلة 50 مليون ليلة مبيت خلال أيام المراسيم. ويقوم بخدمة هؤلاء المشاة أكثر من 500 ألف متطوع؛ من مختلف الإختصاصات؛ موزعين على عشرة آلاف موكب وهيئة وحسينية تضم مالايقل عن 20 ألف خيمة وسرادق ومبنى منتشرة على طول 2000 كم. وهي أماكن خاصة بالإطعام والإسكان والخدمات.
المهم في الأمر، والمتفرد على مستوى التاريخ والجغرافيا؛ إن هذه كلفة هذه المراسيم التي تبلغ حوالي 500 مليون دولار؛ يدفعها الناس طوعاً..عشقاً للحسين.. نعم بدافع العشق فقط. وتشمل هذه الكلفة الإطعام والإسكان والنقل ومختلف أنواع الخدمات. وأن الدافع لإقامة هذه المراسيم هو دافع ذاتي إنساني وديني؛ فلا علاقة له بأية حكومة ودولة وحزب وجماعة ومرجعية دينية وسياسية، كما لايدفع تكاليف هذه المراسيم أية حكومة وجهة دينية وسياسية؛ بل هي تبرعات من الأفراد؛ تبدأ بأقل من دولار واحد، وتنتهي بأكثر من مليون دولار.
تقوم الدولة العراقية من خلال الحشد الشعبي والجيش والشرطة والإدارات المحلية والمؤسسات الصحية والخدمية بتأمين الجانب الأمني للمسيرة وجزء من الجانب الخدمي، وتنظيم حركة المرور والنقل. كما تقوم السفارات والقنصليات العراقية في كل أنحاء العلم بمنح مايقرب من أربعة ملايين فيزة خلال شهر تقريباً؛ أي مامعدله 130 ألف فيزة يومياً. وتتحمل سفارات العراق وقنصلياته في ايران ولبنان والكويت والبحرين والإمارات وتركيا وباكستان وافغانستان والهند واذربيجان العبء الأكبر في هذا المجال؛ فمثلاً القنصليات السبع في إيران قدمت عام 2015 أكثر من مليوني ونصف المليون فيزة؛ أي مايقرب من 80 ألف فيزة يومياُ. وهو عدد هائل لم تعرفه أية سفارة وقنصلية في تاريخ الدبلوماسية.
وبالتالي تحقق الدولة العراقية سنوياً نجاحاً باهراً يندر مثيله على مستوى دول العالم أجمع. فخلال 15 يوماً هو معدل إقامة المراسيم؛ يندر أن تحدث أعمال عنف وخروقات امنية وحوادث مرورية و إنتشار للأمراض والأوبئة. بل لاينجم عن هذه المراسيم سوى عدد قليل جداً من الضحايا؛ نتيجة خرق أو اثنين تقوم به الجماعات الإرهابية؛ قياساً بمايجري في كل دول العالم، وقياساً بالوضع الأمني غير المستقر للعراق الذي تحتل ثلث مساحاته جماعات إرهابية تكفيرية متوحشة تناصب مراسيم الأربعين العداء، وتعد نفسها سنوياُ لعمليات نشر الأوبئة وتسميم المياه والاطعمة والتفجيرات والقتل الجماعي؛ ولكنها تفشل سنوياً فشلاً ذريعاً نتيجة قبضة القوات الأمنية العراقية، وتمكنها من تأمين حياة 20 مليون إنسان منتشرين على طول 2000 كم خلال 15 يوماً…
فهل الدولة العراقية فاشلة ؟!
وهل هناك أمة تتسابق على الجود والكرم والعطاء والبذل كما تفعل الأمة العراقية؟ ليس بأموالها وحسب؛ بل بأنفس ابنائها ووقتها وكل ماتملكه؛ من أجل تحقيق أهداف أكبر. وهل هناك أمة في العالم قادرة على تقديم هذا اللون العجيب من الأداء والتنظيم والتدبير؟!
هناك كثيرون لايدركون أهمية أن تقوم الآمة بعملية إستثمار معنوي؛ كقاعدة للنهوض وإعادة البناء والتلاحم الوطني والمجتمعي. يتحدث المعترضون عن تعطيل الدوائر الرسمية والأهلية والإختناقات المرورية وغيرها من السلبيات التي ربما لاتتجاوز 10% فقط في مقابل 90% من الإيجابيات والنجاحات المثمرة لمراسيم الأربعين. هؤلاء لايعون إن هذه المراسيم هي أعظم مولد لطاقة الأمة، وأعظم دافع نحو البناء والتخطيط السليم، وأروع مظهر لتلاحم جماعات الأمة وافرادها، وتعاونهم وتكافلهم وتوادهم وتحاببهم.
نعم؛ نحتاج الى تفعيل هذا الإستثمار العظيم؛ باتجاه مزيد من التلاحم الوطني وإذابة الفوارق القومية والطائفية. نحتاج الى مشاركة أوسع للسنة بكردهم وعربهم
وتركمانهم في هذه المراسيم؛ رغم أن هذه المشاركة موجودة وملحوظة. نحتاج الى تثقيف ديني ووطني وإجتماعي خلال هذه المراسيم؛ ليعود العراقي الى مدينته وقريته وبيته ومحل عمله وهو مشحون بطاقة الصلاح والإصلاح والبناء، والحب للدين والوطن وابنائه، والإندفاع نحو خدمة المجتمع والبلد، ونحو المساهمة في تطهير الوطن من الفساد والإرهاب. فلو قامت الدولة والمرجعية الدينية ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الحسينية والدينية بإستثمار الطاقة الكبرى التي تولدها مراسيم الاربعين في نفوس العراقيين وعقولهم؛ لتغيرت معادلة العراق قطعاً، ولإنسحب هذا النجاح المرحلي السنوي الى نجاحات باهرة مستدامة..
لاتقرعوا أنفسكم أيها العراقيون، لاتهنوا ولاتحزنو ولاتيأسوا؛ فأنتم شعب عظيم في دولة ناجحة؛ رغم كل الصعوبات والإخفاقات. إنها كرامة لكم أن تنجحوا في تنظيم هذا الحدث السنوي التاريخي الفريد. إن شعباً بهذا التألق والإشراق والنجومية، ودولة بهذا الحجم من قبول التحدي والإصرار على النجاح؛ جديران بأن يكونا في مصاف الشعوب والدول المتقدمة الكبيرة في نموها الداخلي وحضورها الدولي وإنجازاتها على كل الصعد و طموحاتها المستقبلية.
إن نجاح الشعب العراقي ودولته في إقامة هذا الحدث المليوني السنوي؛ هو قاعدة الإنطلاق نحو مستقبل مشرق، ومنهج السير بإتجاه المشروع الوطني الشامل العلمي الرصين. هذا النجاح المستدام دليل على أن الشعب العراقي ودولته قادران على ردم الفجوات ومعالجة المشاكل والتخطيط السليم والبناء الناجح على كل الصعد. كيف لاينجح شعب أبوه علي بن أبي طالب و قائده الحسين بن علي ؟!