23 ديسمبر، 2024 10:06 ص

العراق : أزمة تلو أزمة ستة عشر عاماً من تركة بريمر..

العراق : أزمة تلو أزمة ستة عشر عاماً من تركة بريمر..

منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحركة الاحتجاج الشعبية في العراق تزداد تصاعداً وتتّسع قاعدةً وتتعمّق محتوىً، خصوصاً بارتفاع عدد الضحايا (القتلى والجرحى) الذين زاد عددهم عن عشرة آلاف، أما الحلول والمعالجات فقد كانت مبتسرة ودون مستوى الطموح بكثير، وجمّل غالبيتها ما هو قائم أو وعوداً مؤجلة لما سيكون ، وهي بالطبع لم ترضِ المتظاهرين الذين اكتظّت بهم الساحات على نحو غير مسبوق، وتلك إحدى ظواهر الحراك الشعبي الجديد التي ينبغي دراستها اجتماعياً.
فالشابات والشبان الذين هتفوا وغنّوا وبكوا أمام شاشات التلفاز واجهوا الرصاص الحي والقنابل المسيّلة للدموع والقنّاصة ذوي القمصان السود بصدور عارية وبقبضات الأيدي، ولكن بإصرار وشجاعة عجيبين دون أن ننسى أن التظاهرات بشكل عام كانت سلمية.
وحين استمرّت الأزمة وتفاقمت بفعل العنف والقسوة وردود الفعل أحياناً، ازداد عدد المتداخلين من القوى الإقليمية والدولية، وكلٌّ وفق أجنداته وأهدافه ، الأمر الذي ازداد من تعقيد المشهد السياسي، حتى أن الأمم المتحدة دخلت على خط الأزمة، لاسيّما بنزول ممثلتها جينين هينس إلى ساحة التحرير في بغداد وتأكيدها على عدم استخدام العنف لتفريق المتظاهرين ودعوتها إلى الحوار وإجراء مصالحة شاملة وإصلاحات ضرورية، وترشّح أنها ستنقل تصورها إلى مجلس الأمن الدولي في نيويورك.
كما أن إيران وبعد مرور نحو شهر كامل على اندلاع الأزمة دخلت بشكل مباشر على الخط، وإن كان يتردّد اسم قاسم سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني ، من خلال وجوده ببغداد واتصالاته مع الأطراف المختلفة، ولكن هذه المرّة جاء التعليق على لسان المرشد الأعلى السيد علي خامنئي حيث اعتبر ما حصل في العراق ولبنان ” أعمال شغب تديرها أمريكا وإسرائيل وبعض دول المنطقة” ولم تكن واشنطن بعيدة عمّا جرى ويجري في العراق، فقد صرّح وزير خارجيتها بومبيو “أميركا ترحب بأي جهود جادة من العراق للتصدي للمشكلات التي يعاني منها “.
وإذا كان ثمة اختراقات أمنية وسياسية دولية وإقليمية، ومحاولات إندساس أو اختراق أو استغلال وتوظيف سياسي لدول أجنبية وجهات خارجية، لكنه لا ينبغي الاستهانة بعقول الجموع الغفيرة من البشر والاستخفاف بمشاعر ملايين المعوزين والعاطلين عن العمل، الذين فاض بهم الكيل فخرجوا يطالبون بحقوقهم العادلة والمشروعة باعتراف الطبقة السياسية الحاكمة ذاتها، وكانوا من بغداد إلى البصرة ينشدون النشيد الوطني ” موطني .. موطني” وبجميع محافظات الوسط والجنوب، مع تعاطف المحافظات الغربية والشمالية التي ما تزال تعاني من صدمة داعش ، يضاف إليها نحو ثلاثة ملايين نازح ما زالوا بعيدين عن مناطق سكناهم، ولا يشذّ المواطن الكردي في إقليم كردستان في همومه عن المواطن العربي في العراق، باستثناء طموحه في كيانية خاصة.
وامتازت حركة الاحتجاج التشرينية بالشمولية ، كما كانت خارج نطاق الآيديولوجيا وخارج نطاق السياسة والأحزاب فلم تنحصر في فئة دون أخرى، أو منطقة دون أخرى بل شارك فيها الجميع، حتى وإن اقتصرت على بغداد ومناطق وسط وجنوب العراق العربي، إلّا أنها لاقت تعاطفاً عراقياً عاماً، مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف الخاصة بسكان المناطق الأخرى، وإن اختفى منها أو توارى عن الأنظار، السياسيون، أمّا خجلاً أو خشية من ردود الفعل.
ولذلك أعادت حركة الاحتجاج الجديدة الروح الوطنية واستعادت التقاليد الوطنية العراقية العابرة للطائفية، بحيث أظهرت الهوّية العراقية الموحّدة بكل تجليّاتها الإنسانية وموزائيكها المتنوّع، ابتداءً من التمّسك بالعَلَم والنشيد العراقيين ومروراً بالشعارات الأساسية. وحملت الحركة الاحتجاجية المطالب الاقتصادية والاجتماعية وهي أساسية، مثل إيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين الخدمات التعليمية والصحية، ناهيك عن محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين.
أما سماتها السياسية، فقد كانت بمثابة “إعلان جديد”، بل اعتراف من جانب رئيس الجمهورية عبّر فيه عن يقينه بعدم قابلية الوضع القائم على الاستمرار، خصوصاً وإن هذا الإعلان يأتي بعد ” انسداد الآفاق” الذي شهدته العملية السياسية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 .
ويعود ذلك إلى فقدان الثقة بالعملية السياسية برمّتها، تلك التي أسسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق(13 مايو/أيار 2003- 28 يونيو /حزيران 2004) وكانت تقوم على ثلاثة رؤوس: شيعي وسنّي وكردي ( الرأسان الأولان تم احتسابهما وفقاً لمعيار طائفي، أما الرأس الثالث، فقد صنّف على أساس قومي كردي)، إضافة إلى توابع دينية وقومية، مثل الكلدو – آشوريين والتركمان، إضافة إلى المسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم.
وكان بول بريمر قد منح “الشيعية السياسية ” 13 مقعداً في مجلس الحكم الانتقالي من مجموع 25 مقعداً، وخصّص 5 مقاعد للسنّة و5 مقاعد للكرد ومقعداً واحداً للتركمان ومقعداً واحداً للكلدوآشوريين، وهكذا “شرعن” نظام المحاصصة ، الذي اهتدى به الدستور الدائم (2005) بعد ” الدستور المؤقت” للمرحلة الانتقالية (2004) ، وكان ذلك بصياغة مُلتبسة من نوح فيلدمان (الذي وضع مسوّدات الدستور) وبيتر غالبرايت (الخبير الذي استعان به الإقليم) ، وقد ورد الحديث في الدستور الدائم عن “المكوّنات” عدّة مرّات (مرّتان في المقدمة وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142) وليس ذلك سوى تكريس لنظام المحاصصة الطائفي- الإثني، فضلاً عن بعض المواد الجامدة التي يصعب تغييرها إلّا بإجراءات معقدة، ناهيك عن ألغام كثيرة.
وعلى هذا الأساس تم اقتسام السلطات الثلاث والإدارات التابعة لها، إضافة إلى المفوّضيات المستقلة التي هي امتداد لنظام المحاصصة، وجرى كل ذلك في إطار الزبائنية السياسية حيث تم تقسيم المغانم تحت عناوين ” التوافق” أو “الديمقراطية التوافقية”، وحتى بعد إجراء الانتخابات على ضعفها والمطاعن فيها، إلّا أن ذلك كله يوضع على الرف ويتم اقتسام المناصب وفقاً لقواعد المحاصصة البريمرية .
لقد دفع الفقر والخلل في توزيع الدخل وسوء الخدمات الصحية والاجتماعية وتدهور التعليم وانحطاط مستوى المناهج التربوية، إضافة إلى البطالة ومشاكل السكن والبيئة والبلديات وتآكل البنية التحتية، وغيرها إلى ارتفاع الصوت للاحتجاج، خصوصاً بتعويم الدولة أحياناً لصالح مجموعات مسلحة، لاسيّما بعد الفترة التي هيمن فيها داعش على الموصل (10 يونيو/حزيران/2014) وامتدّ ليشمل محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي ديالى وكركوك، وصولاً لمشارف بغداد، وكان قد تأسس “الحشد الشعبي” استناداً إلى فتوى السيد علي السيستاني المرجع الشيعي المتنفذ في النجف، تحت عنوان “الجهاد الكفائي” والذي ساهم في القضاء عسكرياً على داعش، لكن وجوده كتنظيم موازٍ حتى وإن أُلحق بالقوات المسلحة، أثار مشكلات عديدة ، بل اعتبر عامل عدم استقرار وتوتّر، لاسيّما وإن إداراته متناقضة بسبب اختلاف وتشعب مرجعياتها السياسية.
ولعلّ أهم مطالب الحركة الاحتجاجية هو استقالة الحكومة وحلّ مجلس النواب، وسواء حصل هذا كلياً أو جزئياً أو لم يحصل بما فيه الكفاية بنظر المتظاهرين، فإن حزمة الإصلاحات تحتاج إلى ثقة أولاً وهي معدومة وإلى وقت وهو ليس بصالح ما هو قائم، ولو أريد نزع الفتيل منذ البداية لكان قد تم الاتفاق على تطمينات بشأن: تعديل الدستور أو إلغائه وسن دستور جديد وإن كان هذا هو الآخر يحتاج إلى آلية قانونية وسياق دستوري، خصوصاً وهناك اعتراضات كردية يمكن أن تعطّل ذلك من جانب ثلاث محافظات وبالاستفتاء ، وكذلك الأمر يتعلق بسنّ قانون جديد للانتخابات، وحل الهيئات المستقلة بما فيها هيئة الإشراف على الانتخابات، والهدف هو إجراء انتخابات حرة، ويطالب المتظاهرون بإشراف أممي ، إضافة إلى محاسبة المفسدين.
ووفقاً للفقرة ثانياً من المادة 64 من الدستور التي نصت على :” – يدعو رئيس الجمهورية، عند حلّ مجلس النواب، إلى انتخاباتٍ عامة في البلاد خلال مدةٍ أقصاها ستّون يوماً من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مُستقيلاً، ويواصل تصريف الأمور اليومية.” وهو ما رفعه المتظاهرون في الساحات.
كل ذلك يحتاج إلى سلّة كاملة من الإصلاحات ، إضافة إلى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بقوت الناس وهمومهم اليومية وبالخدمات الضرورية والملحة.
مثلما برزت هناك مطالبات بتحريم الطائفية وسنّ قانون يدعو إلى تحريمها وبالتالي محاسبة من يدعو إليها أو يروّج لها أو يتستر على ممارساتها وهي قضية مطروحة منذ الفتنة الطائفية (العام 2006-2007) وكان لكاتب السطور قصب السبق فيها حين قدّم مشروعاً متكاملاً ” لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة” وهو ما تم نشره في كتاب ” جدل الهويّات في العراق”.
وإذا كانت الإقالة المشروطة لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي قد أصبحت واقعاً بعد أن جاءت على لسان رئيس الجمهورية برهم صالح ، فإن الخطاب الذي ألقاه يوم 31 اكتوبر/تشرين الأول الماضي لم يأتِ بما يطمئن المتظاهرين ، على الرغم من الوعود التي قدّمها. وكان عبد المهدي قد أبدى موافقته على الاستقالة في حواره مع القوى والكتل السياسية وذلك بعد التوصل إلى بديل مقبول ” وفق السياقات الدستورية والقانونية وبما يمنع حدوث فراغ دستوري” كما نُسب إليه.
واتّسم خطاب رئيس الجمهورية بلغته العاطفية بعد أعمال العنف ومحاولة فرض منع التجول، تلك التي لم يلتزم جمهور المتظاهرين بها، بل قام مع سبق الإصرار بكسرها حيث خرجت العوائل والأطفال إلى ساحات الاحتجاج لتعبّر عن رأيها بكل صراحة، بل لتطالب بالمساءلة لما حدث، لاسيّما بوقوع هذا العدد الكبير من الضحايا. وكان صالح قد خاطب الجمهور بقوله ” أؤكد لكم انحيازي إليكم بمشاعري وعواطفي وجهودي وبكل ما أملك من مساحة ودور وقوة استمدّها منكم ، فأنا معكم في تظاهراتكم السلمية ومطالباتكم المشروعة ومعكم في رفع الحيف ومحاربة الفساد، ومعكم بإنصاف القطاعات المظلومة والمهمّشة من أبناء العراق”.
وبصورة غير مباشرة أدان القمع وحمّل الحكومة المسؤولية بتأكيده ” ليس هناك حلّ أمني، القمع مرفوض، واستخدام القوة والعنف مرفوض. الحلّ في الإصلاح وفي تعاون الجميع ، والحكومة مطالبة بأن تكون حكومة الشعب كما أشار إلى ذلك الدستور ورسخته تضحيات العراقيين”.
كما دعا إلى وضع السلاح بيد الدولة ، لكن من سينفذ ذلك، خصوصاً وقد جاء تقرير اللجنة التي شكّلها مجلس الوزراء للتحقيق في مسؤولية الارتكابات التي حصلت ، مخيّباً للآمال ، ثم من هي الجهة التي يمكن الاعتماد عليها لحصر السلاح وجمعه وحلّ الميليشيات وضبط الأمن وتفادي حدوث اقتتال يمكن أن يكون شيعياً – شيعياً، خصوصاً وإن القوى الشيعية السياسية متحفّزة، وهناك ثلاث قوى كبرى أولها – التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر وثانيها- منظمة بدر بقيادة هادي العامري، وثالثها – عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وجماعات أخرى، مثل كتائب حزب الله وسرايا النجباء وسرايا الخرساني وكتائب التيار الرسالي وسرايا الجهاد والبناء ومعظم هذه الجماعات متأثرة بالتجربة الإيرانية، إن لم تكن جزءًا منها، بل إن بعضها يعلن انحيازه الصريح لها، لاسيّما في التصدّي للقوات الأمريكية فيما إذا دخلت حرباً ضد إيران.
ولعلّ الجديد في خطاب رئيس الجمهورية هو دعوته لحوار وطني يقول إنه باشر به في دوائر رئاسة الجمهورية لمعالجة الاختلالات البنوية في منظومة الحكم ، لكن لم يترشح حتى الآن من هي القوى المدعوة للحوار؟ هل هي من داخل بيت العملية السياسية أم من خارجه؟ وما هو سقف الحوار ومدّته؟ وكيف السبيل لخطوات سريعة وعاجلة لطمأنة المتظاهرين؟
إن ما هو واضح في خطاب برهم صالح هو الجملة الأخيرة التي عبّر فيها عن قناعته “بالحاجة إلى تغييرات كبيرة لا بدّ من الإقدام عليها” ، فلم يعد استمرار الوضع ممكناً، بل لم يعد جائزاً ترك البلاد للأقدار الغاشمة وللأزمات التي تتعاصفه واحدة تلو أخرى ، وهو الأمر الذي يحتاج إلى بلورة صيغة عملية لتأطير المطالب الشعبية في إطار خطة زمنية تدرّجية وواقعية لإحداث التغيير المنشود، كي لا تذهب التضحيات هباءً وسدىً. ولعل حسم الموقف لصالح المطالب الشعبية سيؤدي إلى نزع فتيل الأزمة ويحول دون استمرار التدخلات الإقليمية والدولية السافرة، سواء من جانب إيران أو تركيا، أو حتى “إسرائيل” التي قصفت مواقع عراقية قبل أسابيع دون رد فعل حكومي حازم، ودون أي إشارة من جانب واشنطن التي ترتبط بمعاهدة إطار استراتيجي مع بغداد، تلك المعاهدة التي ترتّب عليها مسؤولية عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية إزاء العراق، لكن الولايات المتحدة تستخدمها من طرف واحد حين تدخل قواتها أو تخرجها أو تنقل قسم من الدواعش الأسرى إلى العراق، دون استئذان أو حسبان لسيادة العراق.
نشرت في مجلة الشروق (الإماراتية) العدد 1439-1451 تاريخ 4-10 /11/2019