23 ديسمبر، 2024 2:58 ص

العراقي ..والنشأة الأولى..ونظريات التبرير ..أفقدته حقائق الامور

العراقي ..والنشأة الأولى..ونظريات التبرير ..أفقدته حقائق الامور

ان أخطر ما تواجهه الشعوب من حكامها هي نظريات التبرير..حين يعمدون الى تحويل الحق الى باطل والعدل الى ظلم ..تساندهم قوة السلطة والمنتفعين منها رغم ان النظرية مستمدة من نظرية المعرفة ،لكن المبررين سرعان ما يُكشفون ،فتسقط هيبتهم لدى الناس كما نراهم اليوم .من هنا فأن هذا التوجه يفسد نظرية الحكم ويصيب الدولة بالشلل في حقوق الناس..والتبرير يختلف من شخص الى اخر حسب قوة القدرة التجريبية او المنطق او الشهادة .وعلى العموم قاومت الحكومات المخلصة لشعوبها هذ النظرية كي لا تنتشر بين المواطنين..لتصبح وسيلة من وسائل الدفاع عن الوضع الراهن ومبرراته لحماية النظام المجحف بحق الشعب. ..والمواطنين.

الانسان العراقي رغم حضارته الضاربة في القدم منذ عهد السومرين ، وتاريخه الناصع المشحون بكتب الشرائع منذ عهد آورنمو السومري ( 2212 -2095ق.م )الكبير..والدساتر على عهد حمورابي البابلي (1750 ق.م صاحب الدستور الاول في العالمين ..والوثائق الاشورية التي حددت المفاهيم ..والكتابة التي ساعدتهم على اختراع التدوين فتولدت عندهم الحضارة التي علمتهم نظريات ربط الظواهر قبل الاخرين ..لكن النظرية التبريرية منذ القدم رافقت الحاكمين..هنا يأتي دور المؤرخين..
ورغم هذه المظهرية الحضارية والبعد الزمني لا زال انسان الحضارة القديمة جاهلا بادوات الاستخدام لها ،لان الظروف السياسية التي واكبته خلقت منه انساناً مضطرباً مبررا لكل خطأ يرتكبه دون الأعتراف به …وكأن نظريات التبرير التي خلقت من نظرية المعرفة قد لا زمته ..لذا لم يعد يدرك ما يحيط به من كثرة ما تلقى من الصدمات التاريخية التي لم يعد بامكانه مقاومتها نتيجة الحروب المتكررة وغزوات الشعوب الاخرى الطامعة بوطنه ، وسيطرة الدكتاتورية المقيتة عليه .التي أستنزفت طاقته المبدعة فحولته الى انسان عاجزا على قدرة الاستفادة والتطوير ..
لكن أصالته الحضارية قد تغلبت على عجزة فكان ثورة عارمة كلما واجهته الصعاب لاسترداد الحقوق ..وهكذا كان ولا زال.فالانسان له طاقة وقدرة على التحمل ،ليس باستطاعته ان يتحمل اكثر من طاقته ..هذا الأنسان لا يُغلب ان توفرت له القيادة الناجحة..ولكن أين له من ذلك..على مر السنين ؟ نأمل من قيادة تشرين 19 ان تخلق لنا قيادة التحقيق.

ولأن الانسان العراقي نشأ علمانيا لم يرتبط بدين منذ عهد اورنمو واكد وبابل ونينوى،حين حشر في الاساطير والخرافات الذي اعتبره احيانا نوع من الدين كما في ارتباطه بآله الشمس والمعابد والزقورات وايتام المواخيروالتي حينما نقرأ تاريخه القديم نراه هو شيء والدين الذي فرض عليه شيء اخر. فظل مع ما نؤمن به اليوم من مصطلحات التقدم والتأخر بعد ان آمن بفكرة الحركة التي نادت ان الزمان والاشياء في تغير وتحول دائمين ولهم في ذلك مذاهب شتى.والانسان العراقي هو الوحيد الذي امن بالفكرالحر ولم يعرف الدين والبعث بعد الموت ، فكانت له مدرسة لتعليم الكتابة والقراءة وليست مخصصة لمواخيرالرذيلة والبغاء. والمرأة كانت عنده معلمه وقاضيه في المعابد محترمة لا مسترخصة كما هي اليوم ، وكان له قانون وشريعة لا تخترق كما في شريعة حمورابي .ولم تكن للآله بغايا معابد وقصور ، بل حكم مطلق يستمد قوته من عدالة القانون…بينما الاله الفرعون كان في الحضارة المصرية القديمة..يعتقد في البعث بعد الموت لذا كان يدفن احتياجات الميت معه املا في عودة اللقاء من جديد .لذا عرف منذ البداية دفن الموتى كأنه خيال في وجود .
ويبدو ان الحضارات وان اختلفت مساراتها ،لكنها تشترك في اهدافها وفلسفتها الحياتية.فاليونانيون ومنهم هرقليط أمنوا بالحركة الدائمة ،وسبب هذه الحركة هو الصراع الذي يؤدي الى تحول الاشياء بعضها الى بعض،فالوجود عنده موت يتلاشى ،والموت وجود يزول .فالخير والشر والكون والفساد امور تتلازم وتنسجم في النظام العام..لذا كان ليس بحاجة الى فلسفة التبرير.

والعراقيون في حضاراتهم السابقة من سومرية وكلدانية وبابلية وحتى الاشورية كانوا على علم ويقين بحركة الزمان وانتقال الاشياء من حال الى حال.ومن يقرأ مدونة اصلاحات أوركاجينا وآورنمو وقانون حمورابي يدرك ذلك تماماً، لكنهم كانوا لايؤمنون بالبعث واليوم الاخر ،لذا حتى موتاهم كانوا يدفنون في حفر بلا لحود ولا اشياء ترافقهم كما كان عند المصريين القدماء. هذا هو الذي طبع الفكر العراقي بالابداع وربط الظواهر والابتعاد عن الخرافة والشعوذة وغيرهما..كثير .
لذا ترى العراقي الى اليوم رابطاً للظاهرة لا تفوته الفكرة المقابلة ابداً حتى سرت بين العراقي منذ القدم مقولة(أمفتح باللبن،ويقرأ الممحي) وهي حقيقة وليست وهماً، حتى ان مؤرخينا المُحدثين قد اقروا في ذلك كما كنا نقرأ للمرحوم المؤرخ الاثاري الدكتور رضا الهاشمي في ارائه المعمقة والبرفسور طه باقر مؤرخ الحضارة العراقية القديمة، لكن عيبهم الوحيد انهم كانوا منذ القدم لايتفقون على رأي معين ..رغم كونهم يقولوا بالحركة الدائمة للحياة والموت معا..ويبدو انها خصلة تركزت فيها نتيجة تغير الظروف الحياتية بأستمرارعندهم..لكن اذا ما توفرت الظروف الملائمة سرعان ما يتفقون.

لقد ادخل الاسلام على الفكر العربي عمقا بالغاً ،فأزداد احساس العربي بالوجود والموت ،وجاءت النظرية القرآنية لتؤكد ذلك في سورة الملك اية (2) “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” ومن القرآن الكريم نعلموا ان الوجود حياة والموت حياة ، فأصبحوا كيف يفكرون بامور الحياة المعنوية حين احسوا بالخير والشر . وقد عبر شعراؤهم حين قالوا:
لكل شيء اذا ماتم نقصان فلا يغرك بطيب العيش انسان
هي الامور- كما شاهدتها- دول من سرَهُ زمن ساءته أزمانُ

وفي وثيقة اردشير الفارسي المسماة (عهد آردشير) مؤسس الدولة الساسانية أكد وجود هذه الفكرة ،حين حذر الملوك والسلاطين من الاغترار بالدنيا والجاه والسلطان وان الزمان في تغير لااحد يستطيع رده..لكن الحاكم الفارسي لازال بعيدا عن هذا الاعتقاد ..فهو نرجسي لا يعتمد عليه في شدة..لماذا ..؟

ثم جاءت نظريات ابن خلدون حين حاول تطبيقهاعلى تاريخ دول المسلمين فسماها دورة العمران.
وعلى الجملة ان الانسان واحد والفكر واحد لكن الذي يتغير فيه هي ما تمليه عليه الظروف من تقلبات واحداث لتصهره وتكيفه كيفما تشاء. لذا فالعلم ليس هو الوحيد الذي يرقي عقل الانساني وانما جملة عوامل اخرى التي تعمل على صقل فكره وتغييره من حال الى حال منها البيئة الحرة التي تربى فيها ..لذا لايمكنه من المحافظة على توازنه امام مغريات الترف او الحضارة فيظهرعليه التباين بين مستواه الخلقي والسلوكي كما نرى الحاكم اليوم ,اما الثقافة فهي التحول الداخلي للانسان التي تجعل منه انسانا يستطيع اتخاذ موقف سليم من الحضارة وادواتها والترف واشكاله.

هنا يستدعي الامر ان نقارن بين الانبياء وقادة الدول،بين محمد (ص) وابو سفيان ، وبين عمربن الخطاب والاسكندر المقدوني ، وبين ماو تسونغ وهتلر وموسليني بعد الحروب . ،لنرى كيف ان الثقافة الملتزمة قد خلقت منهم انساناً يؤمن بالقيم المعنوية وبحقه وحقوق الاخرين في قيادة الوطن والامة والأخر ، يؤمنون بانفسهم وادوات الحياة ..لكن عندما اساء الحاكم القيم ضيع نفسه وملكه وشعبه دون ان يدركوا مخاطر نظريات التبرير .فتأصلت بمن جاء بعدهم ولا زالت..تشعل العروق.

هنا تبقى المبادىء والقيم هي الاساس في حكم الناس وليس قوانين التبرير ،وهوان الحاكم النقي يبقى محتفظا بها وبكرامته ونبله امام الناس ، اذا ما بقيت المبادىء في رأسه شذرة من شذرات القوة ليواجه الباطل ونظرية التبرير، بكل مغرياتها المادية والمعنوية ليقول لها محمد(ص) بايمانٍ مطلق :(والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر ما تركته او اهلك دونه) ويقصد هنا الدعوة الاسلامية ومُثلهاومبادؤها العتيدة ،وهو الذي انتقل الى جوار ربه ولا يملك من الدنيا المادية شروة نقير،لكنه ملك الحياة والناس والرب معاً، وسيبقى ذكره خالداً محفورا في عقول الناس والتاريخ ..فهل من يدعون الاسلام اليوم يطبقون..؟ لا أعتقد..

فهل من يدعون بالدين والانبياء والرسل وأهل البيت والصحابة اليوم كذبا وزورا ..مدركين ما فعلوا ويفعلون حين أرتدوا نظريات التبرير في حكم الشعوب بقصد التظليل والمظلومية الكاذبة فخانوا الوطن .. بعد أن اضاعوا مشروع الحكم الوطني في التطبيق…وهاهم يعيشون اليوم في نظرية الخوف المستمر نتيجة التبرير الخاطىء في التطبيق رغم الرفاهية والمال المسرق الكثير ..وما دروا ان العدل هو أقوى جيش ..والآمان أهنىء عيش ..فمن يعش في خوف مستمر ..لن يكون حراً ابدا..حكام الغدر والخيانة وسرقة اموال الشعوب مثالا اليوم..فهل يتعضون..
ان أفضل مايفعله الفاشلون اليوم هو ان يصنعوا من أنفسهم رجال دين ، ونقول لهم: ما قيمة الناس الا في مبادئهم فلا المال يبقى ولا الألقاب والرتب.
كن يا حاكم الوطن المستباح اليوم للأغبياء…كالاحجار الكريمة التي لا تصنع ..بل يصنعهم القدر أبحث عنهم فلا تغرك الدنيا وتبقى تبحث عن المال فأصحاب الاموال.. بلاقيم يبقون عبيدا لها.
الحاكم هو الذي يحدد قيمة نفسه كما في غاندي الهند ..ومهاتير محمد ماليزيا فلا تصغر من شأنك حين ترى فخامة الاخرين من خونة الاوطان والشعوب يتظاهرون ..فلو كانت القيم والمبادىء تقاس بالأوزان ..لكانت الصخورأغلى من الماس..فأطلب الحق ايها المواطن المخلص وان قل…؟

[email protected]