ترجع أبرز مراحل المواجهة بين العراقيّين والأوكرانيّين للعام 2003 حيث ساهمت أوكرانيا مع دول التحالف الدوليّ في احتلال العراق، وشاركت بأكثر من 1650 مقاتلا، وقد قتل منهم قرابة 17 جنديا ممّا اضطرّها لإعلان الانسحاب منتصف العام 2011.
واليوم، ورغم المسافات الشاسعة، نجد أنّ الغزو الروسيّ لأوكرانيا قد ألقى بظلاله القاتمة والمظلمة على العراق في العديد من الجوانب السياسيّة والشعبيّة والإنسانيّة والأمنيّة التعبويّة والاقتصاديّة.
سياسيّا، امتنع ممثّل العراق في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة عن التصويت لمصلحة قرار يُدين غزو روسيا لأوكرانيا، ويطالبها بالكفّ عن استخدام القوّة ضدّها، ولينضمّ بذلك إلى (35) دولة اتّخذت ذات الموقف!
وعلى الصعيد الشعبيّ انقسم العراقيّون في موقفهم من الغزو الروسيّ، وفقا لما ظهر في بعض القنوات الفضائيّة والصحف ومواقع التواصل إلى أربعة أقسام، وهم بين مؤيّد ومعارض ومحايد ومتطوّع!
وقد رفعت قوى مجهولة صورة كبيرة للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في بغداد، وأزيلت بعد ساعات من نصبها!
وفي الجانب الإنسانيّ هنالك أكثر من (5500) عراقيّا يقيمون في أوكرانيا، بينهم قرابة (500) من طلبة الجامعات الطبّيّة والهندسيّة وغيرها.
وأكّدت سفارة العراق في أوكرانيا أنّها تواصلت مع منظّمة الصليب الأحمر لفتح منفذ برّيّ لإجلاء العراقيّين، ونسقت مع (37) جامعة ومعهدا يدرس فيها الطلبة العراقيّون ونجحت في حصولها على إجازات دراسيّة، وأن تقدّم دراستهم وامتحاناتهم بالنظام الإلكترونيّ.
ويقال بأنّ طالبة من أهالي كركوك قُتلت في اليوم التالي من الهجوم الروسيّ، وهنالك أنباء عن اختفاء شابّ عراقيّ يدعى “مصطفى صفاء”، وتحاول الخارجيّة العراقيّة التنسيق مع الأوكرانيّين لمعرفة مصيره.
وكشفت سفارة العراق في أوكرانيا بأنّ بولندا ورومانيا وبلغاريا وافقت على استقبال العراقيّين المقيمين في أوكرانيا، وقد نزح لغاية الأربعاء الماضي، أكثر من (265) عراقيّا إلى بولندا وغيرها.
وفي الجانبين الأمنيّ والتعبويّ أوضحت القنصليّة الروسيّة في محافظة البصرة قبل أسبوع تقريبا تلقّيها طلبات للانضمام إلى صفوف القوّات الروسيّة، وأنّها أبلغت المتطوّعين بأنّ روسيّا لديها القوّة الكافية!
ومع التطوّرات الميدانيّة الجديدة، وأمر الرئيس بوتين يوم 11/3/2022 بنقل المتطوّعين من الشرق الأوسط للقتال بجانب روسيا في أوكرانيا، فهذا يعني أنّ بعض العراقيّين سيلتحقون للقتال مع الجيش الروسيّ خلال الأيّام المقبلة!
ولا ندري هل هؤلاء المتطوّعون يريدون بتطوّعهم الهروب من واقعهم المرير وممّا يعانونه من فقر وجوع وبطالة، وربّما، طمعاً في الحصول على الأموال، وربّما، والجنسيّة الروسيّة لاحقا، أم هم جزء من القوى المليشياويّة الداعمة لروسيا المتواجدة في سوريا؟
أمّا اقتصاديّا، فقد تسبّبت الحرب في أوكرانيا بموجة من “جنون الأسعار” للموادّ الغذائيّة، وقد أكّدت وزارة التجارة أنّ العراق سيبدأ العمل بخطّة الطوارئ، واستيراد كمّيّات كبيرة من الحنطة لتأمين الخزين الاستراتيجيّ، وأنّ ارتفاع الأسعار في السوق، وبشكل مفاجئ، لا علاقة له بتلاعب التجّار بل مرتبط بأزمة أوكرانيا، وأنّ الوزارة تعتمد على القمح من الخزين الاستراتيجيّ للفلاحين العراقيّين لتأمين مادّة الطحين!
وارتفعت أسعار جملة من المواد الغذائيّة ومن بينها الطحين والرزّ والزيت والبقوليّات لدرجات غير معقولة نهائيّا، وهذه الربكة السعريّة سترهق كاهل الفقراء الذين يشكِّلون 30 % من السكّان!
وتسعى حكومة بغداد لدعم البطاقة التموينيّة، في خطوة، ربّما، ستخفّف بعض الشيء من الأزمة، لكنّها ليست من الحلول الناجعة!
والحقّ فإنّ السبب الأكبر في ربكة أسواق العراق كون الاقتصاد الوطنيّ من الاقتصادات الريعيّة المعتمدة على النفط بنسبة تتجاوز 95 بالمئة، وأيضا لفشل الحكومات المتعاقبة في بناء مشاريع زراعيّة وصناعيّة إنتاجيّة قادرة على تأمين القدر الأكبر من احتياجات البلاد الأساسيّة، وهذا الفشل برز بوضوح مع تنامي الفساد في أرجاء الدولة، بدليل تأكيد منظّمة الشفافيّة العالميّة يوم الثلاثاء الماضي أنّ العراق في قائمة البلدان الأكثر فسادًا في العالم!
إنّ الأزمة الأوكرانيّة كشفت الكثير من الجوانب السلبيّة داخل بنية الدولة العراقيّة وفي مقدّمتها الغياب الواضح للسياسات التخطيطيّة الاستراتيجيّة المؤمِّنة لقوت المواطنين ودوائهم!
ومن هنا ندرك أهمّيّة التخطيط الدقيق، والاقتصاد المتين في استمرار هيبة الدولة ومكانتها وقدرتها على توفير وتحصين الأمن الغذائيّ لمواطنيها، ولكن كيف يمكن تنظيم هذه الأسس العلميّة التخطيطيّة في بيئة مليئة بالأيادي العابثة التي نهبت خيرات البلاد من باطن الأرض وفوقها؟
dr_jasemj67@