23 ديسمبر، 2024 6:36 ص

العراقيون قادرين على استدعائه في الملمات والمصائب، روحا وشخصية وطريقة حكم، حتى إشعار آخر

العراقيون قادرين على استدعائه في الملمات والمصائب، روحا وشخصية وطريقة حكم، حتى إشعار آخر

يميل الإنسان للعزلة بمرور الوقت؛ بعد سنوات من الصخب والعلاقات الاجتماعية الواسعة
مؤخرًا وصلت إلى مرحلة فقدت فيها الرغبة بالدخول في أي جدال أو نقاش غير مثمر
لم أعد أحتمل الكلام المسموم؛ المباشر أو غير المباشر
يمكن جدًا أن نختلف في وجهات النظر ونتناقش حولها
لكن أن يتحول الموضوع إلى منشورات مسمومة ومبطّنة
فلا داعي لأن تعرّض نفسك لوجع الرأس والقلب بشكل مستمر
إلغاء متابعة أو صداقة أو بلوك
وكان الله يحب المحسنين
هل تشكّل العراق الحديث على أساس طائفي؟
في الوقت الذي كان فيه العراق يموج بحرب مذهبية طاحنة عام 2006؛ وصف عبد العزيز الحكيم إعدام صدام حسين بأنه “إعدام للمعادلة الظالمة التي حكمت العراق طيلة الفترة السابقة”.. تراث المظلومات هذا الذي استله صاحب التصريح من قراءة سطحية مبسترة للتاريخ؛ كان هو الوقود الذي غذى حركة المعارضة العراقية قبل 2003
ولكن ما هي تلك المعادلة “الظالمة” التي أشار إليها المذكور؟
من الطبيعي أن أي نظام حكم يلجأ لتحصين نفسه؛ عن طريق عقد تحالفات سياسية واقتصادية واجتماعية مع البيئات التي تتقبله أو ترى في نفسها امتدادًا له، وهو ما فعله الآباء المؤسسون للدولة العراقية الحديثة
وسبق أن أشرنا إلى أن تحريم المرجعيات الشيعية على مقلديها الانخراط في الجيش والمدارس والدوائر الحكومية؛ قد أدى إلى انقسام في مجتمعات الجنوب والفرات الأوسط، ومهّد لظهور طبقة سياسية قررت خوض غمار الحياة العامة، ثم صارت جزءًا مهمًا فيها لاحقًا
وفي دراسة سريعة لطبيعة البرلمانات المتعاقبة في العهد الملكي سنلاحظ التالي:
أن سنة المدن العراقية كانوا أكثر انخراطًا ومشاركة في الحياة السياسية والعامة من الأرياف السنية بفارق واضح وكبير
وأن الريف الشيعي كان أكثر مشاركة واندماجًا في الحياة السياسية والعامة من شيعة المدن
هذه المفارقة يمكن ملاحظتها في الأرقام التالية:
أن النواب السنة من شيوخ العشائر كانوا يمثلون أقل من 10% من اجمالي النواب السنة في البرلمان طيلة العهد الملكي

في حين استحوذ سنة المدن الكبرى؛ بغداد والموصل والبصرة على 90% من تمثيل السنة برلمانيًا
أما شيوخ العشائر الشيعية فقد كانوا الكتلة الشيعية الأكبر داخل البرلمان، ومثلوا دوما نحو 60-70% من النسبة الإجمالية للنواب الشيعة
وبقي تمثيل شيعة المدن والمثقفين غير المحسوبين على الأوساط العشائرية نحو 30% طيلة العهد الملكي
وتشير هذه النسب بشكل عام إلى طبيعة النخب والتحالفات التي قادت النظام الجديد وقتها أو تحالفت معه؛ على أساس تحقيق امتيازات لها ولجماهيرها
وهكذا يمكن القول إن النظام الملكي اعتمد على دعامتين رئيسيتين لحكمه، هما: سنة المدن وشيعة الأرياف
ورغم تفاوت النسب التي شغلها كل طرف من هؤلاء داخل جسد الدولة وأجهزتها؛ إلا أنهما شكّلا باستمرار حضورًا دائما، حتى انقلاب 1958
وازدادت وتيرة المشاركة الشعبية في أجهزة الدولة ومؤسساتها باطّراد مع ارتفاع نسب التعليم
باستثناء الجيش والأجهزة الأمنية؛ التي كانت شبه محتكرة لفئات اعتبرها النظام الجديد عمقه الاستراتيجي الأكثر ولاءً له، وغير المتأثر بمرجعيات أخرى غير الدولة، سواء كانت دينية أو عشائرية
وللجيش وبنيته الاجتماعية قصّة أخرى ربما نعود إليها يومًا ما؛ لنكتشف أن فكرة المعادلة “الظالمة” هي مجرد أوهام وأحقاد اجتماعية؛ غذّت بها أحزاب المعارضة جماهيرها، لشرعنة إسقاط الدولة العراقية بغزو أجنبي بُني على أكاذيب، وتم رغمًا عن أنف العالم كله
*الصورة لأول برلمان عراقي “المجلس التأسيسي” عام 1924
حين استلم البعث الحكم في العراق، كان الرئيس أحمد حسن البكر على رأس هرم الدولة السياسي والأمني، إلا أن ذراعه اليمنى و”ابن ولايته” صدام ظل حاضرا في كل التفاصيل.
لم يكن البكر يظهر في المناسبات العامة إلا بصحبة نائبه صدام، مما شكل للنائب الشاب حضورا مبكرا في وعي العراقيين، أوحى بدور مقبل لهذا الرجل المليء بالحماسة والاندفاع، والعنف أيضا.
هذا العنف ظهرت تفاصيله في علاقاته بزملائه في الحزب من الأجنحة الأخرى، التي بادر صدام لتصفية نفوذها عن طريق اغتيالات اتهم بها، وإقصاء مارسه بحق قيادات الخط الأول من الحزب.
ورغم توقيع البعث ميثاقا للعمل المشترك مع الحزب الشيوعي ضمن ما عرفت بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1973، فإنه سرعان ما أطاح بالشيوعيين وحوّلهم من شركاء سياسة إلى مطاردين في المنافي أو في جوف السجون.
لم يطل الأمر بصدام حتى استلم الحكم عام 1979، بعدما تنازل له البكر عن الرئاسة، فيما قيل وقتها إنه أُجبر على ذلك، وأيا يكن الأمر فقد استوى الأمر لصدام، وبات سيّد العراق المتوج وحده دون منازع.
كانت الخطوة الأولى التي أقدم عليها هي تصفية الأجنحة الأخرى ذات النفوذ والتأثير داخل الحزب، فكان له ما أراد عندما أطاح من خلال الاعتقالات والإعدامات بالعديد من رؤوس الحزب الكبيرة، من بينهم مفكرون وقياديون انتموا للحزب قبل صدام نفسه.
من بين هؤلاء كان منظّر الحزب الأول في العراق عبد الخالق السامرائي، الذي يعرف بـ”درويش الحزب”، ومعه قياديون آخرون مهمون مثل عدنان الحمداني ومحمد عايش وغيرهما ممن اتهموا بالتآمر مع الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد على بعث العراق.
وبدأ صدام باستثمار إنجازات عقده السابق في السياسة والاقتصاد، وعلى رأسها تأميم النفط والنهضة العمرانية وارتفاع دخل المواطن العراقي، والعلاقات القوية التي كانت تجمعه بالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معا، قبل أن يحدث ما لم يكن بالحسبان، وهو اندلاع ثورة في إيران وسقوط نظام الشاه وتربع الخميني على سدة الحكم.
لهيب الحروب وتحولاتها
لم تطل أيام الاستقرار هذه، فاندلعت الحرب مع إيران، لتلتهم ثماني سنوات من عمر البلدين، كأطول حرب نظامية في القرن العشرين.
وخلال سنوات الدم والنار هذه، ضرب صدام بقبضة حديدية كل خصومه من الأحزاب التي ناوأته، كالدعوة والشيوعي والإخوان بالإضافة للأحزاب الكردية.
خرج العراق من الحرب يداوي جراحه ومكبلا بديونه، ولم يكد يهدأ قليلا حتى اتخذ صدام قراره الذي يصنف بالأكثر كارثية في تاريخه، وهو غزو الكويت.
لم يطل به المقام في الكويت كثيرا، فانسحب تحت وطأة وضراوة ضربات التحالف الدولي بقيادة حليفه القديم الولايات المتحدة، ليدخل العراق بعدها في حصار خانق لمدة 12 عاما، أدى إلى انهيار اقتصاده وعملته وانحسار سلطته، وذاق العراقيون مرارة الفقر والحرمان بشكل لم يألفوه في تاريخهم المعاصر.
كانت صدمة الهزيمة العسكرية والحصار الاقتصادي والعزلة السياسية عميقة جدا، دفعت صدام نحو تحولات إيديولوجية لم تعرف عنه سابقا، فالبعث الذي عرف بكونه حزبا علمانيا محايدا في تعامله مع الدين -في نسخته العراقية على الأقل- بدأ ينحو تجاه التدين لأول مرة عبر إطلاق ما عرفت بـ”الحملة الإيمانية”، التي بدأت معها مظاهر التدين بالعودة إلى المجتمع العراقي بعد عقود من التوجس والريبة، وربما الحرمان.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد لجأ حزب البعث “التقدمي” والرافض للمظاهر “الرجعية” كما عرف من خلال أدبياته، إلى إحياء التقاليد العشائرية في البلاد، بعدما ضعف سلطان الدولة في أنحاء واسعة من البلاد، وخاصة في الجنوب الذي شهد تمردا عسكريا بالتزامن مع انسحاب الجيش العراقي من الكويت، سرعان ما تم القضاء عليه.
وهكذا، بدا صدام مختلفا في نسخته التسعينية عما سبق، فقد أصبح كثير الحديث عن القيم الروحية وتأثيرها الاجتماعي، وبات شيوخ الدين والعشائر ضيوفا دائمين في ديوانه، كثيري الظهور معه في لقاءاته التلفزيونية، وازداد نفوذهم في المجتمع، تحت سقف سمحت به الدولة، ووظفته لتلافي الفراغ والعجز الذي أصابها، بفعل المتغيرات التي ألمت بها بعد مغامرة الكويت.
مشهد النهاية
ورغم محاولات صدام لإصلاح ما أفسدته الحروب، فإن الأوان قد فات، فقد عزمت الولايات المتحدة على غزو العراق والإطاحة بحكمه، ويبدو أنه حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت الاجتياح الأميركي كان مقتنعا بأن شيئا ما سيمنع وقوع ذلك، إلا أن ذلك لم يحدث، فاحتلت القوات الأميركية العراق، وانهارت مقاومات الجيش وما يعرف بفدائيي صدام، وسقطت بغداد في غضون ثلاثة أسابيع تقريبا.
وكان منظر تهاوي تمثال صدام في ساحة الفردوس وسط بغداد أشبه بزلزال، لم تقتصر آثاره الارتدادية على العراق فحسب، بل تعدته إلى العالم العربي، الذي ظل يعيش جدلا لا ينقطع حول الرجل.
ثم زادت من وطأة الجدل بين الكثيرين في العالم العربي وخارجه، لحظات إعدامه بعدما تجمّع خصومه حوله هاتفين بعبارات ذات طابع مذهبي بوصفه زعيما “سنّيّا” هذه المرة.
وهكذا انتهت مسيرة حافلة بالجدل لرجل ملأ الدنيا وشغل الناس، منذ أن قدم فتى يافعا من القرية، فاحتضنته المدينة وفتحت له أبواب عالم السياسة على مصراعيه، فكان أول رئيس ريفي يحكم العراق، مرورا بكل التحولات التي جرت في عهده، يوم كان حاكم العراق المطلق الذي يخشاه أتباعه وخصومه على حد سواء، ثم الرئيس الذي أطاح بحكمه الغزاة، فظل يتنقل من منطقة إلى أخرى مختبئا في البساتين والقرى البعيدة، بعيدا عن أعين الرقباء والجواسيس.
لم يكن صدام رئيسا عابرا أو حاكما عاديا، فقد ظل مثار جدل وخصومة في حياته وبعد وفاته أيضا، ولعل جزءا من هذا المشهد السريالي هو تحوّله إلى أيقونة لدى محبيه وكارهيه في آن واحد.
وبين كونه رمزا للعروبة والوطنية ورفض الهيمنة الغربية، أو تعبيرا عن الظلم والاستبداد والدكتاتورية، ستبقى الكثير من التساؤلات تدور حول شخصية الرجل وهيبته التي يعتبرها الكثيرون ساحرة أخاذة، وقدرته على إدارة الحكم في بلد معقد اجتماعيا وسياسيا، وكيف استطاع ضبط إيقاع الحياة فيه على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد منذ كان نائبا للرئيس، ثم رئيسا تصفق له الجماهير وتهتف باسمه طوعا أو كرها، إلى مطارد يتخطفه الناس وتُعلن المكافآت المليونية للقبض عليه، ثم شجاعا ثابت القلب على حبل المشنقة وقد أحاط به جلادوه، ولن يحسم الجدل في هذا الموضوع قريبا ما دام العراقيون قادرين على استدعائه في الملمات والمصائب، روحا وشخصية وطريقة حكم، حتى إشعار آخر.