23 ديسمبر، 2024 3:14 ص

العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم ( 8 )

العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم ( 8 )

نستمر في هذه الحلقة بحديثنا عن الطلبة العراقيين في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو في الستينيات . نتوقف عند المرحوم د . عباس الدباغ . كان واحدا من طلبة الدراسات العليا , الذين كانوا يحملون شهادة البكالوريوس العراقية عند وصولهم الى موسكو . كان طالبا جدّيا , وانهى دراسته ضمن الفترة القانونية بنجاح , وعاد الى العراق , وعانى ( كما هو حال خريجي الجامعات الروسية بشكل عام ) من مشاكل معادلة الشهادة والتعيين , واستطاع – بعد التي واللتيا – ان يعمل في جامعة الموصل لفترة , واضطر اخيرا للسفر الى اليمن للعمل هناك , واختاروه عميدا لاحدى كليات الجامعة التي كان يعمل بها في اليمن , اذ لاحظوا هناك مستواه العلمي الراقي ونضوج شخصيته وجدّيته واخلاصه في العمل , و سمعت, انه وضع في تلك الجامعة كتابا منهجيا لهم في اختصاصه, ولكني لم اطلع عليه ولا اعرف مضامينه . لقد علّق أحد الزملاء مرة قائلا , ان العراقيين لم يلاحظوا شخصية د. عباس المتميّزة علميا واخلاقيا , لأن مغنية الحي لا تطرب ( خصوصا اذا كانت خريّجة الاتحاد السوفيتي) , بينما اكتشفوا في اليمن رأسا تلك الميزات الواضحة بسهولة . رجع د. عباس الدباغ الى العراق بعد العمل – ولمدة ليست قصيرة – في اليمن , وساهم مساهمة فعّالة ورائعة في عملية تأسيس الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية والاعداد القانوني لانبثاقها , وتم انتخابه في لجنتها الاولى في الاجتماع العام لخريجي الجامعات الروسية , الذي انعقد في كلية اللغات بجامعة بغداد عام 2004 . توفي المرحوم د. عباس مبكرا في بغداد اثر مرض عضال , ولازالت ذكراه العطرة راسخة في نفوس كل اصدقائه وزملائه . اختتم هذه السطور الوجيزة عنه بذكرياتي في جامعة موسكو معه , اذ كنت غالبا ما اتلاطف معه في جامعة موسكو واطرح عليه سؤالا واحدا وهو – من وجهة نظر علم الاقتصاد , لماذا يستلم طالب الدراسات العليا 150 روبلا شهريا , بينما نستلم نحن طلبة الدراسات الاولية 90 روبلا شهريا , وهل هذا يعني ان طالب الدراسات العليا يحتاج ان يأكل أكثر من طالب الدراسات الاولية ؟ وكان عباس يضحك من اعماق قلبه عندها , وقد ذكّرني مرة في بغداد بذلك السؤال , وقهقهنا معا , وهو يقول لي , انه لن يجيبني ابدا عن هذا السؤال من وجهة نظر علم الاقتصاد .
الاسم الثاني الذي اود ان اتوقف عنده هو المرحوم خالد الزبيدي , الذي كان طالبا في كلية الاقتصاد , ولكن الملحق الثقافي محمود شكري استدعانا , نحن طلبة الدراسات الانسانية , واخبرنا بضرورة تبديل اختصاصنا الى دراسات علمية , وان ذلك التبليغ رسمي وصادر من الدولة العراقية , وانه اتفق مع الجانب السوفيتي بشأن تنفيذ هذا النقل . لقد كنّا آنذاك في الصف الثاني , وقد ناقشناه – نحن طلبة كلية الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها ) – وقلنا له ان العراق يحتاج الى مترجمين عن اللغة الروسية لتوسّع العلاقات العراقية – السوفيتية في مجالات متنوعة وعديدة جدا , فأجابنا , ان العراق يحتاج الى مترجمين اثنين فقط لا غير من الذين يعرفون اللغة الروسية , وان البقية فائضين عن حاجة العراق , وقد ضحكنا من منطقه الافلج هذا . يمكن القول ان اكثرية الطلبة رفضت مقترح الملحقية , الا ان بعض زملائنا وافقوا على ذلك , معتبرين انه لا ضير من الانتقال الى الاختصاص الذي يرومون دراسته , وانها فرصة يجب الاستفادة منها رغم كونها تحمل صفة سياسية واضحة المعالم , اذ انها انعكاس لما كان يجري في العراق اواخر حكم عبد الكريم قاسم . كان خالد الزبيدي من جملة الطلبة الذين قرروا الانتقال الى كليّات اخرى , رغم انه كان الشخص الثاني في رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي , وهكذا ترك خالد كليّة الاقتصاد و انتقل الى الدراسة في معهد الهندسة المعمارية , اذ وافق الجانب الروسي على ذلك بتنسيق مع الملحقية الثقافية طبعا . وأذكر اني تحدثت معه عندئذ , وقلت له , ان هذا الاختصاص يتطلب موهبة ذاتية في قضايا الرسم والتخطيط المعماري , فقال لي مبتسما , ان المهندس المعماري في العراق يرسم خريطة بناء البيت على ( باكيت جكاير تركي او لوكس ) (وهي سجائر عراقية كانت موجودة في الخمسينيات ويتذكرها زملائي الشيّاب طبعا) ويعطي الخريطة للمقاول , ويؤكد المهندس فقط على مواقع الابواب والنوافذ . لقد كان المرحوم خالد الزبيدي انسانا مرحا ولطيفا وبسيطا ومجاملا ومحبوبا من الجميع , ولكنه لم يتميّز علميا , ومع انه اكمل دراسته وحصل على شهادة الهندسة المعمارية , وعمل في العراق مهندسا في احدى دوائر الدولة , فانه واقعيّا لم يكن مهندسا معماريا حقيقيا مثل بعض زملائه الذين انهوا دراستهم في هذا المعهد الشهير , ومنهم , مثلا , المعماري العراقي المعروف د. خالد السلطاني , الذي يعدّ الان واحدا من كبار منظريّ الهندسة المعمارية في العراق وأحد اهم مؤرخيّها , واصبحت كتبه وبحوثه مصادر اساسية في المكتبة المعمارية العربية .