اتوقف في هذه الحلقة عند كليّة التاريخ في جامعة موسكو. لا توجد في العراق كليّة خاصة بالتاريخ , بل قسم في كليّات الاداب اوكليّات التربية ليس الا , ولهذا كانت كليّة التاريخ في جامعة موسكو بالنسبة لنا ظاهرة غريبة , وكثيرا ما كنّا نتحاور فيما بيننا حول الاشياء المحيطة بنا وامكانيّة الاستفادة من هذه التجربة العلمية الجديدة امامنا , وضرورة عكسها على واقع العراق بعد عودتنا, ومن جملة تلك الاشياء هو الدعوة لتأسيس كليّات في العراق على غرار كليّة التاريخ وكليّة الجغرافيا وكليّة الجيولوجيا وكليّة الكيمياء..الخ الكليّات العلمية المتكاملة و الرصينة في جامعة موسكو, اذ ان القسم العلمي الواحد – مهما يكن واسعا وكبيرا – لا يستطيع ان يتناول بالدرس والتحليل كل الجوانب المتشعبة العديدة لذلك الاختصاص العلمي الكبير, الا ان العين ( كانت ولازالت مع الاسف !) بصيرة واليد قصيرة , خصوصا وان فلسفة التعليم في العراق ومسيرته التاريخية مبنيّة على اسس بعيدة جدا عن المفاهيم الروسية للتعليم…
الحديث عن كليّة التاريخ يعني التوقف عند جبار عطيوي وخليل العبيدي وسعيد نفطجي ونوري السامرائي وهاشم التكريتي ( ترتيب الاسماء طبعا حسب حروف الهجاء). كان هناك طالبان فقط في الدراسات الاولية هما خليل العبيدي وسعيد نفطجي. خليل كان اكبر منّا عمرا , وكنّا نعرف انه كان معلّما في العراق, وانه جاء لاكمال تعليمه . وكان خليل دائما محطّ احترامنا وتقديرنا نتيجة عمره وسلوكه واخلاقه الراقية . كان منعزلا . وعلمنا بعدئذ انه تزوج وقرر البقاء في روسيا , ولازال حتى اليوم (وانا اكتب هذه السطور في نهاية العام 2019) يسكن في موسكو , وربما يمكن القول انه اكبر العراقيين سنّا بين كل العراقيين المقيمين الان في روسيا , و الذين اكتسبوا الجنسية الروسية طبعا بمرور السنين. لقد أخبرني صديقي عبد الله حبه مرة ( وهو من المقيمين ايضا ) , انه يزوره بين فترة واخرى , وان خليل العبيدي لا يخرج الان من بيته لانه ( بلغ من العمر عتيّا). لا اعرف كيف أمضى خليل كل هذه السنوات الطوال في روسيا بعد تخرّجه , الا انني لم أجد يوما أثرا ثقافيا له , كبحث علمي او ترجمة عن الروسية او مشاركة في نشاطات فكرية …الخ .
الطالب الآخر في الدراسات الاولية كان سعيد نفطجي , الذي كان محبوبا من قبلنا لطرافته وثقافته الموسوعية , رغم طريقة حياته الغريبة جدا مقارنة بطريقة حياتنا. كان يتقن الانكليزية والتركية , وتعلّم الروسية بشكل ممتاز , وكانت هوايته القراءة , وكنّا نعرف انه ( يلتهم الكتب !) نهارا , ولكن ( عندما يأتي المساء ونجوم الليل تظهر ) يتفرّغ سعيد عندها – ويوميّا – للكأس . وكان يقول لنا دائما , انه هنا لكي يتابع الثقافة نهارا والكأس ليلا , وهكذا استمر على هذا الحال الى ان تم فصله من كلية التاريخ , فعاد الى العراق , واصبح طالبا في قسم اللغة الروسية بكليّة اللغات في جامعة بغداد , وقد تم قبوله هناك باعتباره يتقن الروسية , واصبح طالبا لدى زملائه العراقيين في جامعة موسكو , الذين انهوا دراستهم في تلك الجامعة وتم تعينهم هناك , وهم كل من د. محمد يونس ود. ناشئة الكوتاني . تخرّج سعيد نفطجي بعد اربع سنوات من الدراسة في جامعة بغداد, وكان من الطبيعي ان يكون الخريج الاول في قسم اللغة الروسية هناك, فارسلته الدولة الى الاتحاد السوفيتي لاكمال دراسته العليا , فعاد الى جامعة موسكو مرة اخرى , واراد ان يكتب اطروحة عن ناظم حكمت , وكان يمكن له ان يحقق هذا العمل العلمي بلا شك , ولكن (عادت حليمه الى عادتها القديمه) , وهكذا تم فصله من الجامعة مرة اخرى و لنفس السبب . عاد سعيد الى العراق وتم تعينه مترجما عن الروسية في وزارة الاعلام , ثم وصل الى سنّ التقاعد , وكان مستمرا على فلسفته وطريقة حياته . لا اعرف الان أخباره , ولكني سمعت من البعض انه توفي , ولم استطع تدقيق هذا الخبر المؤسف . لقد كان سعيد نفطجي مثقفا متميّزا بكل معنى الكلمة , وكان متابعا دقيقا لمسيرة الادب والفكر عموما , وكان الحديث معه حول الثقافة واحداثها عميقا و ممتعا دائما , اضافة الى انه كان كريم الطبع والنفس , وكان يحافظ دائما على كرامته ومكانته المعنوية . لقد قال لي المرحوم ا.د. كامل الشيبي ( استاذ الفلسفة في جامعة بغداد , وهو نسيب سعيد ) مرة عنه , ان سعيد نفطجي فيلسوف عراقي مجهول , وقد أيّدته في ذلك …
كليّة التاريخ في جامعة موسكو تستحق حلقة اخرى للحديث عن طلبة الدراسات العليا من العراقيين فيها , اي عن جبار ونوري وهاشم…