23 ديسمبر، 2024 12:21 ص

العراقيون ، ومدى حسّاسيتهم من كلمة “مجلس” !

العراقيون ، ومدى حسّاسيتهم من كلمة “مجلس” !

يتحسس العراقيون ويتشائمون من كلمة (مجلس) ، ولهم كل الحق في ذلك ، ففي السابق كانت تدل على القلق والترقب أو الأخبار السيئة ، وكان العراقيون يضعون أيديهم على قلوبهم لما لهذا “المجلس” من سمعة تاريخية سيئة كلما هتف المذيع (بيان صادر من مجلس قيادة الثورة) ، حيث لا تتمخض عنه إلا قرارات الإعدامات أو إعلان الحروب أو البشائر السوداء ، ومرّت الأيام ، وصارت هذه الكلمة تتكرر إما من خلال تسمية للأحزاب أو الكتل ، مثل ملاليح كُثُر بلا فائدة شكّلوا عبئا هائلا على سفينة منخورة يتهددها الغرق ، وهي لا تقل سوءا وتشائما عن المفردة القديمة ، وكأن “مجالسنا” هذه سابقا وحاليا ، لها أعضاء يمتلكون حق التصويت وذات أجواء ديمقراطية ، لكنا نعلم جيدا إنها مجموعة من الببغاوات ، والقرار عادة ما يكون قد حُسِمَ مسبقا من قبل دكتاتور .

مجالس ولجان نسمع عن تشكيلها كل يوم ، لم نرَ منها أية نتيجة ، لجان نيابية ولجان تحقيق ومجالس حزبية ومجالس محافظات ، ولا تشكّل إلا المزيد من المصاريف الباهضة التي ترهق الدولة كادرا وتمويلا ، والتي لا تعود بالفائدة إلا على أعضاء هذه اللجان والمجالس ، بحيث أن أعتى المافيات في العالم ، باتت تحسدنا عليها ، وربما تفكّر في “الإستثمار” وفتح ممثليات لها في البلد ، وهو ما يحصل فعلا ، فالنتيجة بائنة وواضحة .

ما يهمنا هو الخبر الأخير ، وهو تشكيل ما يسمى (المجلس الأعلى لمكافحة الفساد) ، وهو بالتأكيد لم يكن خبرا سارّا ، فقد إستقبل مواطن الشارع هذا الخبر ، بشيء من عدم الإكتراث الكلي ، والمواطن لا تهمه المسمّيات بقدر الفعل ، سواء أكان مجلس أعلى أم أسفل ، لا بل أنه زاد من حدة يأسه لعلمه أنه لن يحمل رائحة إصلاح ، وأن الفساد سيتطرق إليه ويلوّثه تماما (هذا إن لم يحتوي أصلا على بذور فساده) ، كما تطرق بسهولة إلى واجهات مشابهة صارت معقلا للفساد بدلا من مكافحته ، والمشكلة أن حجم الفساد يزداد بصورة متناسبة مع حجم دوائر مكافحة الفساد ، إبتداءً من مفتشيات الوزارات ، مرورا بلجنة النزاهة ، إنتهاءً بهذا المجلس ، وعند وجود شكوى على فساد (والمفارقة اليافطات التي تدعو إلى مكافحة الفساد بالإبلاغ عنه في كل دوائر الدولة) ، لكن هذه الشكوى ستتداولها أيدٍ فاسدة ، وإن خرجت بإعجوبة من مصيدة هذا (الفلتر) ، ستنتهي باليد المعنية للنظر في الشكوى ، وهذه اليد فاسدة هي الأخرى !.

لقد صار الفساد نهجا لا يمكن الحيود عنه ، إبتداءً من حارس مركز الشرطة ، إنتهاءً بأعلى المراجع ، فكل هم الغالبية العظمى ممن لديهم صلاحية صنع القرار مهما كان بسيطا ، هو البقاء في المنصب مهما كلّف الأمر ، ثم محاولات تسلّق الأكتاف والتملق للوصول لمربع الترقية التالي ، والثاني الحصول على أعلى المكاسب مهما كلف الأمر أيضا ، لكن عبارة (خدمة الصالح العام) ، مبدأ مشطوب من عقلياتهم .

تشكيل هذا المجلس ، إقرار من الحكومة ، بوجود فساد في أعلى المستويات ، وسيبقى بلا قرارات كسابقاته من عشرات اللجان والمجالس ، ولا يمثل إلا بابا جديدا لإرهاق ميزانية الدولة ، إما بسبب تكاليف إنشائه ، أو بالتستر على فساد بمستوى عالٍ للغاية ، وسوف لن يجني ثماره إلا أعضاءه ! ، فلربما إختلط الأمر على الحكومة ، فعملت بالحكمة القائلة (لا تحارب النيران إلا بالنيران) ، فأستنتجت حكمة جديدة تقول (لا تحارب الفساد إلا بالفساد) ! ، دائرة مغلقة لا يمكن الإفلات منها وكأننا في قعر أطباق جهنم !.

المشكلة الحقيقية تكمن في القلّة القليلة من الشرفاء (فلو خُلِيَتْ قُلِبَتْ) ، لكنهم مغلوبون على أمرهم ، فإن أرادوا التغريد خارج السرب ، سيجدون أسرابا من الفساد لا تتورع عن إردائهم ، فالفساد متجذّر بشكل لم يشهد له البلد مثيلا لأنه إمتلك ما لم يحام به حتى قارون ، وقد إشترى القضاء والضمائر وكل الآليات اللازمة لديمومته وترسيخه ، لهذا على الشريف أن يصمت ، هكذا تحوّل حتى الشريف لدينا ، إلى شيطان أخرس !.