18 ديسمبر، 2024 7:01 م

العذراء الجامحة – 8 –

العذراء الجامحة – 8 –

الحلقة رقم – 8 –
لم يتردد أمجد في الأجابة فقد أندفع قائلاً:«نعم ياعمي العزيز. هذا شرف كبير بالنسبة لي ولعائلتي. سأذهب الأن وبعد ساعات قليلة ستكون والدتي هنا. كم تمنيت أن يكون والدي حاضراً ولكن ………..» إنطلق- أمجد – صوب دراجته النارية القابعة عند البوابة الخارجية للدار. إندفعت سلامة خلفه وكأنها تلاحق مصيرها المحتوم. نظرت- خالدة – إلى زوجها الذي أستلقى مجدداً على فراشه كي يرتاح قليلاً ويعيد إنتظام أنفاسه المتلاحقة من تأثير ذلك الكابوس الذي مزق روحه وأعاد أليه ذكريات منسية كان الدهر قد أكل عليها وشرب. بدأت زوجته تلاطفه وتحدثه بكلام هادئ ثم قالت أخيراً:«هل أنتَ متأكد أو مطمئن لكلامك الذي قلته إلى أمجد قبل قليل؟. هل ترى أنه سيكون زوجاً مناسباً لأبنتنا؟ » نظر أليها بشرود ذهني ثم أردف قائلاً:«إن شاء الله سيكون لها زوجاً مناسباً. كل شيء مقّدر ومكتوب. فليفعل الله ما يريد. هل تعرفين أنني كنت متأكداً من وجود شيء ما خلف تلك النظرات التي كان يرمقني بها أمجد منذ اليوم الأول لعمله معي في الدكان. كنت أشعر أن عيناه تشبهان عينا شخص ما ، كنت قد شاهدته في مكانٍ ما وزمانٍ ما . كنت أسترجع في ذاكرتي كل ليلة كل الأشخاص الذين شاهدتهم في حياتي وكنت أقول مع نفسي دائماً –أنا متأكد مئة في المئة أنني شاهدت عينان تشبه عينا- أمجد-، ولكن أين ومتى. حتى أبتسامته كانت ترسل إلى قلبي بصيصا من نور يكاد يدلني على معرفة ذلك الشخص الذي ينتمي إلى أمجد. لم يخطر في بالي أنه أبن- وفاء – تلك الفتاة التي غادر قلبها الوفاء تجاهي يوماً ما. أعرف أنكِ عانيت الكثير بسببها وربما لازلت تعانين حتى بعد كل هذه السنوات الطويلة التي مرت. أنتِ فتاة- أو أمراة- عظيمة قل مثيلها في هذا العالم. لقد أعدت لي الحياة والأمل يوماً ما،عندما كنت أعاني ويلات الأندحار والخذلان بسببها. أنت حقاً خالدة وتستحقين هذا الأسم. أنتِ خالدة في روحي وحياتي كنت أتمنى لو كان أسمك أمل لأنك بعثتي أملاً جديداً في حياتي كنت أشعر بمعاناتك حتى وأنت مستلقية إلى جانبي في السرير. كنت تتصورين أنني أستخدم جسدك القريب للتحليق في خيالي نحو جسدها البعيد. كنتِ متفهمة جداٍ لحالتي ووضعي البائس أنذاك. كنت أفكر كثيراً مع ذاتي عندما أكون وحيداً في مكانٍ منعزل عندها كانت صورتك وصورتها لا تغيبان عن بالي أبداً. كنت أجبر نفسي على طرد شبح صورتها لأنك أنتِ الوحيدة التي قدمت لي كل شيء. لقد وهبتني كل ما تملكيه ، مالكِ، أرضكِ، جسدكِ، روحكِ، أما أنا فلم أقدم لكِ أي شيء سوى مزيج من الذكريات التي كانت تقضّ مضجعكِ. أحياناً كنت أبكي عليك دموعاً ساخنة وأخاطب نفسي بالجبان الذي لا يعرف الإخلاص تجاه الشخص الذي ضحى من أجله. كنتُ أشعر بالضآلة والأحتقار تجاهك. أنتِ كل شيء وأنا لاشيء كنت أتصور بأنني سأصبح غنياً بعد أنهاء دراستي الجامعية وأعوضكِ عن كل شيء بَيْدَ أن الواقع الحياتي والأجتماعي الذي كان يمر به بلدنا حال دون ذلك. لم أكن سوى جندياً صغيرا منشغلا طيلة سنوات طويلة يحارب بلداناً وشعوباً من أجل رئيس دولة طائش لم يجلب لنا جميعاً سوى الدمار والخراب والذل والهوان والعار. كانت أجساد زملائي تتناثر في الفضاء أو تختفي تحت الصخور تبقى هناك بلا قبور وهو-الرئيس الضرورة- يعيش في قصوره لا يعرف الليل من النهار. لم يعد لي شيء في هذا العالم سوى شخص واحد هو أنتِ، وأنا بدونكِ نكرة تماماً لا أملك سوى هذا الدكان الذي كل بضاعته من نقودكِ وهذا البيت الذي لا أملك فيه شيء سوى روحكِ وجسدكِ». صمت كصمت الأموات. أدار وجهه إلى الجدار كي يأخذ مساحة واسعة من الحرية لأطلاق دموعه المنهارة بغزارة كما أعتاد أن يذرفها سنوات طويلة. راح يبكي بصوت مسموع ويخاطب أجساد زملائه التي تركها ممزقة هناك عند السهول والجبال والوديان- أنهم أرواح مجهولة، أجساد مجهولة، جنود مجهولين:«آه.. أنتِ يا أبراهيم..ويا كاظم.. ويا خليل.. آه.. أنت ياعامر وياأسماعيل…آه.. أنت يا كريم.. وأنت ياجليل… ماذا جنيتم حتى تكونوا هناك ممزقين.. لم تفعلوا شيء سوى الرضوخ لقانون الساسة والمجانين…. إنتهت الحرب ورقص الناس في الشوارع فرحين… رقصوا على ماذا ؟ على أجسادكم المبعثرة هناك تنهشها الغربان وتبقى العظام مطمورة بالطين يالهذا العار ويا لهذا الرقص الحزين ضاعت أسمائكم وضاع تاريخكم في خضم الصراع القبلي المشين.إنهضوا من رقدتكم الطويلة.. تعالوا معي نتحد من جديد ونغير الماضي وتاريخ أجدادنا المنهار في خضم الصراعات الطائفية والأنكسارات الأخلاقية. نعيد صرح بلادنا المنهار الذي يموت كل يوم تحت رغبات اللاهثين خلف المال وأحتقار الأخرين». ظل يبكي حتى جفت دموعه وعاد يستغرق في نوم طويل. أما-خالدة- تلك المخلوقة الخالدة في خضم المعاناة والحب الشديد لهذا الزوج المنهارعلى الدوام، الخائف من كل شيء ، خائف من الصراع القبلي وثورة المارقين المنحرفين في صخبٍ وأحتدام. جلست قربه تمسح رجليه بحنان ودموع لا تنقطع وهي تناجيه بحنان أنثوي مقدس:« من أنت أيها الرجل العزيز؟. أنت الروح التي تجري بتناغم في هذا الجسد الذي فارقته الحياة وأنحدر نحو الذبول. من أنتَ؟ ما أنت ألا حلمي الذي كان يراودني منذ أن بلغت سن المراهقة وسن الشباب. كنت أتمزق حينما كنتُ أراكَ تسير خارجاً من البيت نحو الجامعة حيث زميلتكَ- وفاء – التي غدرتك في لحظة من لحظات الطمع والكبرياء. كانت شقيقتك تنقل لي كل ما كنت تقوله لها عن وفاء وعن حياتك في الجامعة هناك. أحببتكَ بصمتٍ مقدس أياماً وشهوراً وسنين. لم أفقد الأمل في الحصول عليك رغم تقلبات الدهر وثورة الحنين. سحقاً لأرضي ومالي فأنت الأرض الخصبة التي أعيش فيها كل لحظة من لحظات حياتي.أنت مالي وقوتي التي تعطيني ديمومة الحياة. من قال لك أنك لا تملك أي شيء، أنت تملك كل شيء يعود لي لأنك أنا وأنا أنت . صحيح أن هذا البيت مسجل بأسمي ولكن هذا مجرد حبر على ورق. إن طهارتك ونبلك هما اللذان وقفا حائلاً دون أمتلاكك هذا البيت. كم مرة طلبتُ منكَ تسجيل كل شيء بأسمك ولكنك كنت ترفض رفضاً شديداً. أردتُ أن أوفر لكَ كل أسباب السعادة ولا زلت أعمل جاهدة على ذلك. أنت منحتني كل شيء، وهبتني كل شيء. كنت أعرف تماماً أنكَ لا تزال تحن أليها كما يحن الإنسان إلى خبز أمه. كنتَ تعمل المستحيل كي تتظاهر بنسيانها ولكن عيناك كانتا تقولان أشياءاً كثيرة. أقسمت لك مرات عديدة بأنني لو أستطيع أن أزوجك أياها مرة أخرى وأشتري لكما بيتاً قريباً من بيتنا لفعلت ذلك ولكنك تعرف أن هذا ضرباً من ضروب المستحيل لأنها متزوجة وفي مكان لانعرفه أبداً. لا تهتم ياعزيزي أنا لك في الحياة وبعد الموت. إطلب مني ما تشاء وٍسأكون خادمة تحت قدميك أنفذ كل شيء تطلبه.هذه هي الحياة ليس كل ما يطلبه المرء يناله.». وقبل أن تستمر في حديثها الطويل سمعت إبنتها سلامة تصرخ قائلة:«أبي، أمي لقد جاءنا ضيوف. إنهم في الباب الخارجي للدار.». قفزت –خالدة- مندفعة نحو الباب الخارجي . أما – نوار – فقد شعر بأضطراب لا مثيل له من قبل. أحسّ أنه مقبل على معركة لا يمكن الصمود أمامها أبداً. إرتدى ملابسه على عجل وأنطلق هو الأخر نحو الباب الخارجي. كان أمجد قد أركن دراجته قرب الجدار الخارجي للبيت وظل واقفاً ينتظر-عمه- أن يأتي كي يسمح له بالدخول. كانت سلامة وأمها واقفتان في الباب تتحدثان أليه وتنظران إلى السيارة الحديثة- الدفع الرباعي – البيضاء الواقفة على مسافة أمتار قليلة من البيت دون أن يترجل منها أحد. صافح الرجل الشاب الذي لم يتجاوز التاسعة عشر بعد. بعد تبادل كلام المجاملات المعتادة، إندفع أمجد قائلاً بحماس:«لقد أخبرت والدتي بأنك تعرف أسمها الكامل،وإنك توافق على زواجي من سلاّمة. لقد جاءت أمي وشقيقتي الكبيرة سميرة وشقيقتي وفاق. إنهم ينتظرون إشارتك بالسماح لهم للترجل من السيارة. وأشار بأصبعه إلى السيارة الحديثة جداً. ظل يحدق في السيارة، لم ينطق بحرف واحد. إبتسم إبتسامة هادئة وفي تلك اللحظة ترجلت فتاة قاربت على الثلاثين أو أقل بقليل. كانت ترتدي بنطالاً خاكياً وبوتاً أحمراً وقميصاَ أزرقاً. شعرها قصيراً ولم ترتدي حجاباً كما كانت زوجته خالدة تفعل ذلك على الدوام. تقدمت بثقة عالية نحو الرجل والأبتسامة العريضة لا تفارق شفتيها. كان يشاهد فيها فتاة متحضرة جداً ومتحررة. قالت وهي تمد يدها إلى الرجل:«كيف حالك يا سيد نوار؟ أنا سميرة بنت- وفاء – حبك القديم. لقد كنت قاسياً معها بعض الشيء. أنا أعرف كل شيء عن قصتكما, لقد حكت لي والدتي كل شيء.».وراحت تضحك بصوت مرتفع. سكتت ثم أردفت بعد قليل:« عفواً لتهوري الطائش. لقد قال لنا أمجد بأنك توافق على زواجه من سلاّمة. عفواً أمي وشقيقتي تخجلان من النزول، سأفتح لهما الباب.». إندفعت سميرة نحو السيارة الواقفة بصمت. فتحت الباب الخلفي وهي تقول بصوت مسموع لكل الأطراف:«تفضلي ياأمي . السيد نوار ينتظركِ , نزلت السيدة بهدوء وهي تتوكأ على كتف أبنتها. كانت تمسك عصا معقوفة بيدها اليمنى- كانت العصا على ما يبدوا غالية الثمن جداً. وقفت إلى جانب السيارة قليلاً وكأنها تخشى التقدم نحو الرجل الذي أقض مضجعها أكثر من ثلاثين سنة رغم زواجها من ذلك المدرس الميسور الحال. أزاحت النظارة السوداء بيدها اليسرى بهدوء وكأنها كانت تريد وقتاً أضافياً لمباراة خاسرة منذ بدء الخليقة. بدأت دقات قلبها تزداد بشكل هيستيري وهي تحدق في عينيه. أما هو فقد ظل يطيل النظر إلى وجهها مذهولاً وكأنه يعيش في حلم من أحلامه التي لا تتوقف أبداً. كانت خالدة تنقل نظراتها بين وجه زوجها وتلك المرأة- التي ظهر عليها تقدم العمر بشكل ملحوظ-. كانت تفهم أكثر من أي شخص في العالم ما كان يجول في خاطر كل واحد منهما. إحترمت صمتهما، ظلت هي الأخرى صامتة وكأن الطير على رأسها. أما سلامة فقد كانت هي الأخرى صامتة لا تعرف ماذا تقول، أو هل يحق لها أن تقول أي شيء في هذه اللحظة بالذات. أما سميرة –الصاخبة على الدوام- فلم يعجبها الصمت الذي كان قد لف الجميع. قالت مازحة:«هل سنبقى هكذا مدى الدهر؟ سيد نوار هل يمكن أن تفتح الباب كي أدخل السيارة إلى داخل الدار. أما أنتِ يا أمي ، لماذا لا تلقين التحية على أصحاب البيت، وأنتَ يا سيد نوار هل تسمح لنا بالدخول أم نعود؟» تقدمت – وفاء – وهي تستند على عصاها، لم تندفع راكضة كي تلقي نفسها في أحضان الرجل الذي فارقته كل هذا الزمن الطويل. تقدمت وهي تمد يدها بكبرياء مزيف وقالت:«أهلاً سيد نوار، أنا السيدة –وفاء- أم سميرة وأمجد ووفاق. مد- نوار- يده بهدوء قائلاً:«أهلاً سيدة وفاء . أنا مسرور بمقابلتك هذه زوجتي –خالدة- وهذه إبنتي الوحيدة سلاّمة.». التفتت وفاء إلى زوجته، مدت يدها لها وهي تقول:«فرصة سعيدة يا سيدة-خالدة- أنا مسرورة بمقابلتكم جميعاً». جلسوا جميعاً في غرفة الضيوف، كل واحد يدقق النظر في وجه الأخر ولا يدري ماذا يقول وكيف يقول. دون سابق أنذار قالت وفاء:« سيد نوار ، لا زلت شاباً وقوياً وهذا يبدوا على وجهك. الحمد لله. أما أنا فقد ظهر عليّ الكبر منذ وفاة زوجي وإصابتي بالروماتزم. هل ترى أنا لا أستطيع السير دون الأستناد على هذه العصا. لا يهم هذه هي الحياة. نحن كبقية المخلوقات نولد ونصبح شباب وبعد ذلك يبدأ العد التنازلي.، نظرت إلى الأرض وصمتت وكأنها كانت تريد أن تبدأ حوارأ آخر. إندفعت خالدة تجاملها كما إعتادت أن تفعل ذلك مع كثيرين، ومن قال أنكِ كبيرة، أنت لا زلت شابة ونضرة الوجه وجميلة جداً. إنني أحسدكِ على جمالك وحيويتكِ.». نظرت –وفاء –إلى تلك المخلوقة التي كانت تقول كلاماً جميلاً ولكنه لا يخلو من الكذب والرياء وربما التشفي منها. ضحكت-وفاء- قائلة:«أشكرك يا عزيزتي ،أنتِ إنسانة رائعة وتعرفين كيف تجاملين الضيوف.». في هذه اللحظة دخلت سميرة إلى غرفة الضيوف وهي تمسح يدها بقطعة قماش قائلة بصوت مرتفع غير مكترثة لأي شيء. كانت تتحدث وكانها قد ولدت قي هذا البيت. لم تعرف معنى الأحراج في حياتها:« لقد نظفت زجاج السيارة فقد كان الغبار يغطيها من كافة الجهات. لقد تعبتُ وعطشت، آلا يوجد هنا شيء نشربه». نظرت إلى الرجل وهي تغمز بعينها اليمنى وقالت:«سيد نوار… هل تغيرت والدتي؟ أم أن شكلها بقي على حاله رغم كل هذه السنوات. لقد عرفتك منذ اللحظة الأولى، شاهدت كافة صورك عندما كنت مع والدتي في الجامعة. تقريباً أن شكلك هو نفسه ، ما عدا تينك الشعيرات البيضاء القليلة في ذلك المكان». وراحت تضحك بصوت مرتفع قليلاً. نظرت –وفاء- إلى أبنتها بغضب مصطنع وهي تقول:«لماذا لا تصمتي قليلاً، كم أنتِ وقحة؟». نظرت إلى نوار وهي تقول:«لقد أتعبتني هذه الفتاة العانس. منذ صغرها وهي شرسة جداً لا تعير إهتمام لأي مكان وأي تجمع بشري. إنها جامحة على الدوام وهذا السبب الذي جعل الشباب يهربون منها.، قلت لها بأنها لن تتزوج أبداً إذا بقيت على صخبها وفكاهاتها التي لا تنتهي. ضحك –نوار- وهو يقول:«طبعاً لقد كانت والدتها صاخبة مثلها ولذلك فأن الفتاة دائماً تكون مثل والدتها». ضحكوا جميعاً. شعرت وفاء بأن الدم يتدفق إلى وجهها وكأن كلامه أعاد لها تداعيات زمن بعيد كم كانت تتلهف لعودته ولكن هيهات. كانت خالدة قد إنشغلت بأعداد المشروبات الباردة التي تقدم في مناسبات كهذه. أما سميرة فقد شعرت بضرورة مساعدة- خالدة – إو بالأحرى إنها لم تعتاد على الجلوس طويلاً في مناسباتٍ كهذه. دون سابق أنذار قالت:«سأذهب إلى المطبخ لمساعدة عمتي خالدة». ودون أن تنتظر رداً على جملتها أنطلقت نحو المطبخ. في اللحظة التي دخلت فيها المطبخ قالت دون تردد:« عمتي لماذا ، لا تذهبي و تجلسي معهم وأنا أعد المشروبات, إبتسمت خالدة لاندفاع الفتاة وقالت: لا يوجد شيء صعب سأعده ونذهب معاً للجلوس هناك. أمامنا وقت طويل للتعارف وتبادل الأحاديث المتنوعة». دون أن تنتظر من خالدة تعليقاًَ أخر، جلست على أقرب كرسي- دون استئذان- وإندفعت قائلة بلا حياء:«عمتي حقاً أنتِ جميلة. أنت أجمل من والدتي كثيراً ، وأعتقد أن هذا السبب الذي جعل –نوار- عفواً- عمو نوار يفضلك على والدتي. كنت أعرف كل شيء عنكم، لقد حدثتني والدتي سنوات طويلة عن نوار وكيف تركها وتزوج امرأة أخرى، ولكن الحقيقة هي التي تركته. كانت مثل صديقتي. كانت تقول لي أحياناً بأنها تركته بسبب فقرها وأرادت أن تتزوج أي أنسان ينتشلها هي وأمها من الفقر. لا يهم. كل شخص يأخذ نصيبه في هذه الحياة. منذ وفاة والدي، كانت تقول لي إنها تدفع كل ما تملك بمجرد أن ترى- نوار- مرة أخرى قبل مماتها.» كانت – خالدة – تنظر إلى الفتاة بأعجاب حيناً ورعب حيناً أخر. إعجاب لهذه اللباقة- والجمال – الذي تملكه، ورعب لأنها لم تستطع أن تفعل مثل هذه التصرفات الجريئة التي لم تقرأ عنها حتى في الروايات التي كانت تستعيرها من شقيقة –نوار-. أما خالدة فعلى العكس مما كانت تتصوره عن نفسها. كانت جريئة ولا تعرف الهروب أو الأنهزام.أرادت أن تكون سيدة الموقف كما أعتادت على ذلك منذ أن تكلمت مع نوار تحت تلك الشجرة في تلك القرية منذ سنوات طويلة. أرادت أن تهجم بهدوء وتحد ضد هذه العذراء العانس الجامحة التي لا تعرف معنى الأنهزام أبداً. التفتت ألى سميرة بهدوء وهي تملئ الأقداح بالعصير البارد وقالت بثبات:«سميرة أريد أن أسألك سؤلاً صريحاً، وأريد منكِ جواباً دون لف أو دوران. إذا كنتِ شجاعة أجيبيني بصدق، لأنني أعرف أذا كنتِ تبتعدين عن الحقيقة». تغيّرت ملامح وجه الفتاة العنيدة وأحست أن هذه المراة التي أمامها ليست سهلة أو كما كانت تتصوره منذ أن شاهدتها لأول مرة واقفة إلى جانب زوجها قرب الدار. أخذت نفساً عميقاً وقالت بثقة:«اسألي يا عمتي، وسأجيبكِ حتى لو فقدت حياتي» وضحكت بأضطراب قليلاً. قالت خالدة بثبات:« يا عزيزتي، هناك شيء واحد يحيرني. إذا كنتِ بهذا الجمال وهذا الجسد الآخّاذ وهذا المال، لماذا لم تتزوجي لحد الأن؟. هل هناك عيب في جسدكِ… أقصد… أنتِ تفهمين ما أعني، أم هناك سبب ما، وأرجو المعذرة على تطفلي؟». كانت خالدة في داخلها تريد أن تسحق هذه الفتاة التي لا تعرف الهدوء. فقد كانت بركان ثائر منذ اللحظة التي ترجلت فيها من السيارة الفارهة. أما سميرة فقد أخذت نفساً عميقاً وهي تقول:« عمتي، هل يمكن أن تأخذي المشروبات اليهما، دعيهما يتحدثان بأي شيء، إنهما في حاجة ماسة إلى ذلك، ثم تعالي سنجلس معاً أنا وأنت نتبادل أطراف الحديث». نظرت إليها خالدة بأعجاب أخر وهي تبتسم بعدها قالت:«حسناً، فكرة سديدة». التقطت- صينية الأقداح. وخرجت مندفعة إلى الضيوف. بعد لحظات عادت إلى المطبخ وهي تقول:«حسناً، كلي أذان صاغية». جلست المرأتان كل واحدة تنظر إلى الأخرى بتحدي مطلق وكأن هناك عاصفة هوجاء على وشك الأندلاع لتحطيم كل شيء. نظرت سميرة نظرة أخيرة إلى خالدة بتحدي وهي تقول:«أولاً أنا سليمة مئة في المئة من الناحية الجسدية، أما أذا كنتِ تقصدين عذريتي- فالحمد لله لم يمسني أحد بسوء. الحقيقة لم أتزوج لأنني كنتُ منشغلة بأشياء لا تعد ولا تحصى منذ سن الثانية عشر. لقد ورثت عن والدي أموال طائلة وكما تعرفين كان مدرس للرياضة في جامعة(….). لقد أشترى لي سيارة عندما بلغت الثانية عشر. أصبحت أعشق السيارات بشكل لا يصدّق. عندما أنهيت الجامعة كان والدي قد فارق الحياة. كل أموال والدي تحولت لي ولأمجد ووفاق.أقنعت والدتي بشراء معرض للسيارات وأصبحت أنا المديرة العامة لكل شيء. أصبحت حياتي مع الرجال وكان عالمهم عالم غريب، مليء بالحيل والأكاذيب. كنت شرسة مع كل من يحاول الأقتراب مني لدرجة أنهم أصبحوا يطلقون عليّ- بالعذراء الجامحة – ولا أدري من أطلق عليّ هذا الاسم لأول مرة، لدرجة أنني أطلقت على معرضي أسم- معرض العذراء الجامحة لبيع وشراء السيارات الحديثة- .لقد تقدم اليّ شباب كثيرون للزواج ولكنني شعرت أن كل واحد منهم كان يهدف للوصول إلى مالي وليس لأنه يحبني كفتاة مستقلة. قررت ترك هذا الموضوع إلى الأبد والأنصراف إلى شوؤن العائلة والعمل في آن واحد.».هنا قاطعتها خالدة بسؤال مهم:« إذاً لماذا كان أمجد يدعيّ بأن عائلته فقيرة ويريد العمل مع زوجي وأنتم تملكون كل هذه الأموال؟ لماذا لم يكن يملك سيارة؟ لماذا كانت لديه هذه الدراجة القديمة؟».

يتبع…………