18 ديسمبر، 2024 10:12 م

العذراء الجامحة – 7 –

العذراء الجامحة – 7 –

الحلقة رقم – 7 –
لم تقوى -وفاء- على الأستمرار في الوقوف.. كان وجهها شاحباً كأنها قد خرجت لتوها من المستشفى . جلست على المقعد ذاته قريباً مني. بدأت الدموع تنهمر من عينيها. دون مقدمات بادرت قائلة:«أنت خائن. لماذا تزوجت بهذه السرعة؟ لماذا لم تتزوجني عندما طلبت منك ذلك؟ كنت تقول أنك فقير ولا تستطيع أن تتحمل نفقات الزواج. أنتم الفتيان هكذا تكذبون دائماً. لقد صدقتك ولكنك كنت تكذب. لو اننا تزوجنا لكانت حالتنا مختلفة الأن.». لم أتحمل السكوت فقاطعتها:«أنت الخائنة. لقد كنتِ تتباهين بزواجك من مدرس الرياضة الميسور الحال. توسلت أليك أن تنتظري إلى حين التخرج ولكنك كنتِ تقولين بأن هذه فرصة ذهبية ومن لم يغتنم الفرصة التي تأتيه يعتبر أحمق. لقد بكيت كثيراً….. ليالٍ طويلة.. كنت أكاد أصاب بالجنون حينما كنت أسهر الليالي وأنا أتصورك في أحضان ذلك الميسور. لقد يأستُ من الحياة وتوصلت إلى قناعة أن الفتيات يتظاهرن بالحب ولكنهن يركضن خلف من يدفع أكثر كنت لا أملك شيء في هذه الحياة سوى والدتي وشقيقاتي وراتب والدي التقاعدي. كنت أختفي خلف جدران الجامعة حينما أراك تفتحين باب السيارة المرسيدس وتصعدين بزهو وكبرياء…. أحياناً تنظرين إلى الوراء كي تتأكدي بأنني كنت أنظر أليك. كنت تبتسمين بخبث وكأنك كنت تريدين أن تقولي-أنظر ،أيهما أفضل هذه السيارة الفارهة أم الباص القديمة التي تستقلها إلى محافظتك-؟ صحيح أنا تزوجت- خالدة – دون قصة حب جامحة ولكنها كانت تحبني ولا تزال تحبني بجنون. لقد أنقذتني من الضياع الذي كنت أعيش فيه. صحيح هي لا تحمل ثقافتك ولكنها بؤرة من الحب والأخلاص لي. لقد أعطتني كل مصاريف الزواج. قدمت لي كل ما كانت تدخره من بيعها للمحاصيل الزراعية. علمتني ركوب الخيل. إنها تخدمني بشكل لا يوصف. ماذا يريد الشاب أكثر من هذا. جسد دافئ في الفراش وحب جنوني. إنها تغار علي من الهواء الذي يداعب شعري.هل تتصوري أنها تقرأ كل الدروس التي نأخذها في الجامعة…! هي تقول لي بأنها ستحفظ كل الدروس عن ظهر قلب. تريد أن تنهي الجامعة دون أن تسجل بها رسمياً. إنها الأن تقرأ أكثر مني، دائما تقول لي بأنها ستتفوق على –وفاء- وعلي من الناحية العلمية. في البداية كنت أتصور بأنها تمزح ولكن بمرور الأيام وجدتها جادة فيما كانت تقول. أحياناً تسألني أشياء عن بعض المعلومات التي لا أعرفها ولكنها تضحك ساخرة وتقول لي بأنني طالب-كسول- وتبدأ تشرح لي أشياء عن دروسي، لدرجة أنني أظل فاغراً فاهي لما كانت تقول. بعد زواجنا قدم لها والدها قطعة زراعية خصبة كهدية لزواجنا. إنها تعمل بها ليلاً ونهاراً- تقول لي بأنها ستشتري لي سيارة أحسن من سيارة-وفاء- كنت أطلب منها أن تترك الزراعة ولكنها كانت تقول لي بأن الأرض كالطفل يجب الاعتناء بها جيداً كي تصل إلى مرحلة عالية من الأخصاب. طلبت مني أن أغير أسمها من خالدة إلى وفاء وعندما سألتها عن السبب كانت تقول بأنها تريدني أن أناديها بأسم الفتاة التي تركتني، قالت لي مرة ونحن نمارس الحب لماذا تهمس بأذني-وفاء- أنا خالدة. سأغير أسمي حتى تهمس بأذني بأسمي وليس بوفاء الأخرى. حبها شيء فريد من نوعه.. أنه حب مقدس روحي لم أر مثله في حياتي. إنها مزيج من الحب الجامح والعمل الذي لا ينتهي. إنها واقعية وحالمة في نفس الوقت. قالت لي بأنها سترسلني إلى لندن لأتمام دراستي وستذهب هي معي كي تخدمني في بلاد غريبة. سأخلص لها مدى الحياة، لأنني سأكون جبان إذا قابلتها بالخيانة والجفاء.». هنا لم تعد وفاء تتحمل ما كنتُ أقوله لها. أجهشت في البكاء ونهضت مسرعة متوارية عن الأنظار.”

توقف الرجل عن سرده لواقع قصة الحب التي كان قد مر بها منذ زمن طويل. نظر إلى سميرة التي كان الدموع تنهمر من عينيها بصمت، هل تبكي على والدتها التي لم يوفقها الحظ للحصول على ذلك الشاب الريفي الصادق، أم تبكي على خالدة التي كانت تمثل أسمى درجات الصدق في الحب، أم تبكي على هذا الرجل الغريب الذي فقد كل شي في لحظة غادرة من الزمن الصعب. فقد فتاته- وفاء – لأنها فضلت مدرس الرياضة الميسور وتركته يتخبط في ضياع تام وهو لا يزال في ريعان الشباب. أم تبكي على فقدانه خالدة في لحظات صراعية قاتلة بين طوائف تختلف في الجزئيات وكل فريق بما لديه فرح. أم تبكي على حالها بعد أن فقدت هي الأخرى كل شيء. فقدت الأب،الأخ،الأغنام، وفقدت العيش في قصة حب كباقي الفتيات. لم تعرف معنى الحب في حياتها، فقد كانت تعيش في أجواء صعبة وفي أرض برية متوحشة لا معنى ولا وجود للحب فيها. كل ما كانت تعرفه هو ركوب الخيل وقتل الحيوانات البرية عندما كانت تقترب من الأغنام. لقد شارفت على الثلاثين ولم تقل لشاب كلمة حب واحدة ولم يقل لها شاب كلمة حب. هل فاتها القطار كما يقولون أم لا زال هناك بصيص من الأمل في هذا العالم لاستحداث قصة حب حقيقية،. أنها مخلوقة بشرية منطوية معزولة في هذه الأرض المترامية الأطراف… من أين يأتيها ذلك الشاب؟ هل ينزل إليها من السماء أم يخرج لها من قاع النهر الكبير المليء بالجثث المجهولة. بدأت تبكي بصوت مرتفع وهي تقول بنبرة تمزق نياط الأفئدة:«ضاع العمر.. وأندثر الشباب.. وتمزقت الأحلام… وقسى علينا الدهر . من أنا ولمن أعيش ولماذا أعيش؟ هل هناك هدف في هذه الحياة أستحق أن أعيش من أجله. إنه هذا الضياع التام في هذا الظلام وفي هذه الأرض المتوحشة،ماذا أفعل بها؟ ولماذا أنا هنا؟ ولماذا لم أكن كباقي الفتيات الأخريات.» وظلت تبكي حتى جف دمعها. صمتت قليلاً. لم تنظر إلى الرجل فقد أصبحت لا تهتم لوجوده مطلقاً. فهو زائر في ليل حالك السواد وسرعان ما سيذوب مع القدر مثلما ذاب شقيقها في لمح البصر. وقبل أن تنهي خيالها ومعاناتها، دق تلفونها النفال محطما جدار الصمت الذي لف المكان. نظرت إلى الرجل الغريب بذعر وكأنها كانت تريده أن يقول شيئاً. دون سابق أنذار صرخ:«أجيبي بسرعة، قد تكون وفاء بخطر». إرتعشت يدها وأرتعش قلبها عندما سمعته يقول أسم والدتها دون لقب أخر. لم يقل والدتك ولم يقل شيء أخر. لم يطق الأنتظار خطف الهاتف من يد سميرة وهو يصرخ كالمجنون:«وفاء..وفاء.. هل حدث شيء أنا نوار». لم يسمع صوتاً في الطرف الأخر كرر الصراخ بشدة أكثر. وفاء ..وفاء .. هل أنتِ بخير؟» جاءه صوت أنين من الطرف الأخر يقول:«آه..نوار.. عرفت أنك نوار.. منذ اللحظة التي شاهدتك فيها قرب الشجرة.. لكنني لم أكن بكامل قواي العقلية، كان الغضب يسيطر علىّ.. تعال بسرعة.. وفاق على وشك الموت.. إنها تحتظر.. لقد قتلوها.. إغتصبوها أمامي.. تعال بسرعة.. بحق السماء.. إفعل شيء». وإنقطع الصوت. جن جنون الرجل الغريب – عفواً نوار- ضرب قبضته بقوة على جدار الملجأ. خطف البندقية من يد سميرة دون أن يقول لها شيء. إندفع من الملجأ كالمجنون يركض بسرعة.. لا يعرف إلى أين. ركضت سميرة خلفه وهي تصرخ بذعر.. «تعال، الطريق إلى الملجأ رقم واحد ليس من هناك.» عاد إلى جهة الصوت. كانت سميرة تركض بالاتجاه المعاكس. كانت تركض كالغزال الشاردة من بطش الوحوش الضاربة. لحق بها. ظلا يركضان بصورة متوازية. أنفاسهما تتصاعد إلى الفضاء الفسيح في ثورة عارمة ضد الظلم والطغيان. كانت الأشجار الكثيفة تعيق حركتهما بين الفيّنة والأخرى. حل المساء. أصبحت الرؤيا غير جيدة نوعاً ما ولكن سميرة كانت تعرف الطريق كما لو أنه كان مرسوماً في قلبها رسماً متقناً. كانت تبكي وتقول«لقد أحرقوا بيتنا، إنهم برابرة متوحشون». كانت تردد تلك العبارة وهي تركض نحو السعير.

حينما دخلا الملجأ رقم واحد كانت الكارثة قد حلت بالأم وأبنتها المسكينة. كانت- وفاء – تحتضن وفاق وهي تهزها بهدوء كأنها طفل رضيع في أحضان أمه. كانت صامتة صمت الأموات. تقدم نوار نحو الفتاة- الميتة – في أحضان والدتها. مدّ يده بهدوء كي ينتزعها من أحضان الأم. جفلت المسكينة وهي تنظر إلى نوار. هل هي فرحة بعودته رغم السنين الطويلةأم أنها خائفة على أبنتها التي فقدت الحياة دون سابق أنذار. ضمتها إلى صدرها وهي تقول بهذيان:«هذه أبنتي لن يأخذها مني أحد». تقدمت سميرة نحو الأم الممزقة الروح والكيان، وهي تقول بهدوء:«إتركيها يا أمي. دعيها ترقد بسلام. هذا قدر الله- كما كنت تقولين لي دائماً- وكل نفس ذائقة الموت. هذا حبيبك- الفتى الريفي- نوار- لقد عاد أليك من الضياع. لقد حدثني بكل شيء عنك. لقد كانت قصة حب خالدة». نظرت الأم إلى أبنتها سميرة ثم حوّلت نظراتها إلى- نوار-. إهتز كيانها وتراخت ذراعيها وتركت إبنتها الميّتة. إختطف –نوار-الفتاة الفاقدة لحياتها ووضعها بعيداً عن الأم الصامتة. عدّل ملابسها ووقف بين الجثة والأم الصامتة. قال بهدوء:«لا عليك ، سننتقم من الجناة، سيظهر الحق يوماً ما. ستشرق الشمس من جديد. دعيها ترقد بسلامها مع شرفها المهدور. إنها ضحية كباقي الضحايا. إنها في الفردوس الأعلى بأذن الله. لقد ماتت مظلومة كباقي المظلومين على هذه الأرض. إن الله يسمع ويرى وسيعوضك بأحسن من ذلك. إذا أصابتكم مصيبة قولوا أنا لله وأنا أليه راجعون». الغريب أن سميرة لم تبكِ أبداً ولكن جسدها كان يرتعش فقط. كانت تنظر إلى شقيقتها المستلقية بذعر لا مثيل له . كانت الدماء العذرية قد غطت التراب ولطخت ساقيها. كانت دماء الشرف الأنثوية الذي أهدره الغزاة بلا رحمة. نظر الرجل إلى سميرة وهو يقول:«سندفنها الأن في ملابسها أنها شهيدة بأذن الله». حملها وخرج من الملجأ. كانت الأم وإبنتها تسيران خلفه بصمت وكأنهما اعتادتا على كثرة المأسي التي تمر في حياتهما. كان نوار يحملها في ذراعيه كأنها طفلته المدللة، يبكي بحرقة.. بدموع ساخنة.. كان يردد بصوت مرتفع:«إصبري .. إصبري.. سأمزق هؤلاء البرابرة.. سأنذر روحي من أجلك فقط. لقد قتلت كثيراٍ من جنود الأعداء خلال المعارك الماضية. سأشتري ملابس عسكرية

سأعتبر نفسي عدتُ إلى الخدمة العسكرية بعد كل هذه السنين. لن أرحم أحداً بعد اليوم. سأعتبر معركتي واسعة جداً. سأقتل كل من يعتدي على إنسان. سأصنع لي جيشاً خاصاً، سأقاتل كل اللصوص على أرض هذا البلد الجريح. سأعمل ثورة جارفة في هذا العالم. سأقاتل الشر في كل مكان. سأجند كل شاب أجده في هذه المدينة. أنها الحرب. ولكن حرب من نوع أخر. سترقدين بسلام تحت التراب كما رقدت أبنتي وزوجتي وولدي أمجد. لا يهم هناك تضحيات كثيرة في الحروب وستكونين أنتِ رمزاً لكل ضحايا العالم. سأشكل فرقة عسكرية كاملة من الشباب سأدعوها فرقة- وفاق-. سأجعل الوفاق يعم هذه الأرض. سأمزق الشر أينما وجد. سأحارب كل من يخلق الفرقة بين البشر. إرقدي بسلام، سنغير التاريخ أنا وسميرة. سميرة مقاتلة شرسة وسنتحد سوية. لن يدحرنا أحد. حينما واراها التراب، تراجع إلى الوراء. سجد على الأرض وهو يقول وداعاً يا زهرة لم تتفتح بعد. وداعاً يا من لم تعشقي سوى الورد والأشجار. وداعاً أيتها المظلومة في وضح النهار. سأحيل الأشرار إلى دمار. سأحرقهم بالنار. إرقدي بسلام يا أبنتي العزيزة.». تراجع إلى الوراء عائداً إلى الملجأ دون أن ينتبه إلى سميرة وهي تسير بجانبه وتمسح رقبته من التراب وذرات العرق المنهمرة على كل جزء من جسده. كانت البندقية في يد- وفاء – وهي تسير خلفها تلتفت بين فترة وأخرى إلى أبنتها المسجاة تحت التراب، ثم تحث الخطى مرة أخرى كي تلحق بأبنتها سميرة التي كانت تسير إلى جانب الرجل الغريب. فجأة بدأت الطلقات النارية تخترق الفضاء من كل حدبٍ وصوب. تمزق سكون الليل واشتعلت النيران في كل الأشجار وسقطت سميرة بلا حراك عند قدمي الرجل الغريب. بدأ يصرخ بأعلى صوته…(سميرة… سميرة… لا تموتي.. أنا في حاجة أليك..) وراح يبكي كالطفل الصغير. كانت سلامة وأمها خالدة تهزان كتف نوار بكل قوة صارختان بذعر« بابا..، نوار، بابا، نوار.. أستيقظ. ماذا بك. أنت تحلم. إنهض.إنهض. أنت تحلم. كانت زوجته خالدة ترش الماء البارد على وجه كي توقظه. مسك نوار يد زوجته وهو يبكي، ماتت سميرة، ماتت وفاق، من أنتِ؟ إحترق كل شيء.عم الخراب والدمار كل البلاد.». صرخت إبنته:«أي دمار وأي خراب… لا يوجد شيء… كل شيء على مايرام.. أمجد في الدكان. هل أناديه. نعم.سأناديه» وركضت مسرعة نحو الدكان. فتح نوار عينيه بذعر. نظر إلى زوجته التي لا تقل ذعراً عنه. قال وهو يفرك عينيه:«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كان كابوساً مرعباً. أين أمجد؟؟ إذهبي ودعيه يأتي فوراً». قبل أن ينهي جملته كان أمجد يقف أمامه ينظر بأندهاش إلى حالة نوار المضطربة. دون مقدمات قال:«ياولدي العزيز، هل أنت بخير؟؟».إبتسم أمجد وهو يقول:«نعم ياعمي. أنا بخير» نظر نوار في عيني أمجد طويلاً، صمت قليلاً ثم أردف قائلاً بسرعة:«هل أسم والدتك وفاء عبد السادة حميد»؟. إندهش أمجد. فتح فمه مذعوراً وهو يقول:«كيف تعرف أسم والدتي الكامل؟ نعم..نعم.. أسمها وفاء عبد السادة حميد.».دون وعي قال الرجل:«هل تريد الزواج من أبنتي سلامة؟. إذا كان جوابك- نعم -، أذهب الأن في هذه اللحظة وأجلب والدتك- وفاء – وشقيقتك – سميرة – كي نتحدث في موضوع زواجك. أما أذا كان جوابك-كلا- ، فهذا شيء أخر». نظرت سلامة إلى أمجد وقد أصطبغ خدها بلون قرمزي وظهرت إبتسامة حياء على شفتيها.

يتبع …….